بالتقوى يصير المباح عبادة
بالتّقوى يصير المباح عبادة
يتحرّج كثير من المؤمنين الأتقياء من إعطاء النفس حقّها من اللهو المباح، بما يشمله من ممارسة أنواع الرياضة البدنية المفيدة لبناء جسم قوي، وللحفاظ على العافية البدنية إلى آخر العمر.
والظّنّ لدى هؤلاء الأتقياء أنّ اللهو حتى لو كان بما أباحه الله إنما هو في أحسن الأحوال إضاعة للوقت فيما لا ثواب فيه، لذا تراهم يحرمون أنفسهم، ويحرمون أسرهم من كثير من المتع المباحة، ومن الرياضات البدنية وأنواع الترويح الأخرى، مما ينعكس على صحتهم البدنية وصحة أولادهم ترهلاً وضعفاً، ويجعلهم عرضة للأمراض التي تصيب من لا يمارس الجهد البدني عادة، ومما ينعكس على صحتهم النفسية ميلاً إلى الكآبة يقلل من إنتاجيتهم الفكرية، بل وحتى التعبُدية لأن المزاج المتكدّر لا يعين على العبادة .
ولكن الإسلام دين الفطرة، ولا يمكن أن يتعارض معها، وقد اكتشف العلماء المعاصرون أجزاء من دماغ الإنسان وظيفتها أن تولّد الإحساس بالمتعة واللذة إذا ما نبّهها المنبّه المناسب، ووجدوا أنها هامة جدا للعافية النفسية، حيث يؤدي تنبيهها إلى إخراج الإنسان من اكتئاب نفسي لم ينفع في علاجه دواء، وإلى بث روح الأمل والتفاؤل لديه، وملئه بالحيوية والنشاط.
فالإنسان لا يمكنه أن يحيا طبيعياً معافى نفسياً دون شيء من المتعة والترويح... وطالما أن الله ركّب في أدمغتنا أجهزة للاستمتاع، فلا يمكن أن يتعارض الاستمتاع مع دين الله.
قال تعالى: ﴿يَـٰبَنِىٓ ءَادَمَ خُذُوا۟ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍۢ وَكُلُوا۟ وَٱشْرَبُوا۟ وَلَا تُسْرِفُوٓا۟ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِىٓ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَـٰتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ ۚ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةًۭ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْـَٔايَـٰتِ لِقَوْمٍۢ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّىَ ٱلْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلْإِثْمَ وَٱلْبَغْىَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا۟ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِۦ سُلْطَـٰنًۭا وَأَن تَقُولُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)﴾ [الأعراف: 31-3].
إذاً الذي حرّمه الله ينحصر في الفواحش، والإثم، والبغي بغير الحق، والشرك، والتَّقَوُّل على الله، وأحلّ ما وراء ذلك من متع وزينة أخرجها الله لعباده قاصداً بذلك أن تكون مصدر متعة وجمال لهم، ولن يكون في استمتاعهم، أو تزيّنهم بها خروج عن أمره.
لكن السؤال يبقى دائما: أوَليس في اللهو المباح إضاعة للوقت فيما لا ثواب عليه؟...
والنبيُ قد بيّن لنا في المتع المباحة ميزاناً بحيث اذا ما تحقّق فيها الشرط الأكبر، وهو اجتناب ما حرّمه الله صار لنا في المتع أجر ومثوبة، أي: صارت عبادة.
روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه "أنَّ نَاسًا مِن أَصْحَابِ النَّبيِّ ﷺ قالوا للنَّبيِّ ﷺ: يا رَسولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بالأُجُورِ؛..." وأهل الدّثور هم أهل الأموال.. فالصحابة الفقراء هنا أحسوا أنّ الأثرياء من المؤمنين قد سبقوهم في الأجر حيث ينفقون من أموالهم في سبيل الله، والفقراء لا يجدون ما ينفقونه مثلهم...قال هؤلاء الصحابة لرسول الله ﷺ: "...ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بالأُجُورِ؛ يُصَلُّونَ كما نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كما نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ،..." فأجابهم النبي ﷺ قائلاً: "...أَوَليسَ قدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ما تَصَّدَّقُونَ؟ إنَّ بكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بالمَعروفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عن مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ،..." فدهش الصحابة لقوله ﷺ: "وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ" فلم يكن يخطر ببالهم أنّ تمتّع الإنسان بمتعة ما يكون له به أجر، فكيف بالمتعة الجنسية التي يعنيها النبي ﷺ بقوله في بضع أحدكم، هنا علّمهم النبي ﷺ كيف تقاس الأمور، ويحكم عليها، وبيّن لهم أن مجرد اجتناب المؤمن لما حرم الله، وحرصه على الحلال يجعل استمتاعه عبادة مأجورة.
إن الاجتناب لما حرم الله هو جوهر التقوى، وإذا ما أضيف إلى المباح حتى لو كان هذا المباح شهوة خالصة، فإن المباح يصبح عبادة، ولم يشترط النبي ﷺ لحصول الأجر عند إتيان المؤمن لشهوته شيئا إلا اجتناب الحرام، فهو لم يشترط أن يغيّر المؤمن نيّته وقصده من الاستمتاع إلى ابتغاء ولد يجاهد في سبيل الله أو غير ذلك مما يظنه البعض شرطاً لتصبح المعاشرة الزوجية مأجورة، فهذا تكلُّف إن كان ممكنا في بعض الأحيان فلا مجال له في غالب الأحيان.
ولنتأمّل تتمّة الحوار بين الصحابة ورسول الله ﷺ: "...قالوا: يا رَسولَ اللهِ، أَيَأتي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكونُ له فِيهَا أَجْرٌ؟ قالَ: أَرَأَيْتُمْ لو وَضَعَهَا في حَرَامٍ، أَكانَ عليه فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذلكَ إذَا وَضَعَهَا في الحَلَالِ كانَ له أَجْرٌ."
فكما أن النية لا تشترط في المعصية، اذ يكفي أن يقع الإنسان في الحرام وهو يعلم حتى يكون آثماً، فإنّه يكفي للمؤمن أن يجتنب الحرام حتى يكون طائعاً مأجوراً، ومن الحرام الذي عليه اجتنابه في أيَ فعل نيّة العلوّ في الأرض أو الفساد فيها.
فبالتقوى تغدو حياة المؤمن عبادة مستمرة... حتى أكله وشرابه. ومرة أخرى دون افتعال نيّة متكلّفة، إنما يأكل ويشرب استجابة لحاجة نفسه ورغبتها. قال ﷺ: "إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا" (رواه مسلم).
صحيح أن المباح بحد ذاته لا أجر عليه ولا عقوبة، لكن اجتناب الحرام عند إتيانه، أي: إتيان المباح بتقوى، يجعل للمؤمن أجراً عظيماً، وهو أجر التقوى التي تجلّت في هذا المباح، إنه يضعها في الحلال، ولا يضعها في الحرام، فيكون له الأجر، ويكون متعبداً حتى وهو يتمتع بما أباح الله له.
تعليقات
لا توجد تعليقات بعد
تعليقك هنا