المقالات
تأملات نفسية في الزكاة: تطهرهم وتزكيهم بها
Whatsapp
Facebook Share

تأملات نفسية في الزكاة: تطهرهم وتزكيهم بها

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ (1) ٱلَّذِينَ هُمْ فِى صَلَاتِهِمْ خَـٰشِعُونَ (2) وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَوٰةِ فَـٰعِلُونَ (4)[المؤمنون: 1-4].

 

لقد بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً. لكن للصلاة والزكاة أهمية بالغة، إذ لا يكاد الإيمان يذكر في القرآن إلا وتذكر معه الصلاة والزكاة، وقد قاتل الصديق –رضي الله عنه– أقواماً من المسلمين منعوا الزكاة.

 

وعندما أذن الله للمؤمنين بقتال الكفار، وبشّرهم بتمكينهم في الأرض، ذكّرهم بما يريده منهم عندما يمكنهم فيها، فكان ما يريده منهم بالدرجة الأولى أن يقيموا الصلاة، وأن يؤتوا الزكاة، وأن يأمروا بالمعروف، وأن ينهوا على المنكر. قال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّـٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُوا۟ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا۟ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَـٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ (41) [الحج: 41].

 

إن الصلاة والزكاة مقدمتان على ما سواهما من العبادات في الإسلام، لما للصلاة من أثر في النهي عن الفحشاء والمنكر؛ إذ تقام لذكر الله، ولما للزكاة من أثر عظيم في النفس والمجتمع، فهي طهر للنفس ونماء للمجتمع. قال تعالى عن الزكاة وغيرها من الصدقات: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ صَدَقَةًۭ تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌۭ لَّهُمْ ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة: 103].

 

إذاً الصدقات عموماً، والزكاة خاصة فيها تطهير للنفوس المؤمنة، وفيها النماء والزيادة والبركة للمجتمع المسلم. وكلمة زكاة تحمل المعنيين معاً. فالزكاة : الطهارة، والزكاة: البركة والنماء، وزكا الشيء زُكُوّاً وزكاءً وزكاة: نما وزاد، وزكّى الشيء وأزكاه: نمّاه (انظر إن شئت المعجم الوسيط).

 

لكن السؤال هنا هو: مم تطهّر الزكاة؟ وكيف يكون فيها النماء والزيادة؟

 

تطهرهم:

تطهّر الزكاة والصدقات الأخرى نفوس المؤمنين من مشاعر سلبية عديدة، كالشعور بالذنب، والحسد، والحقد، والعداوة، والبغضاء، والقلق، والعزلة، والعجز، والنبذ، والهجران.

 

فقد اقتضت حكمة الخالق سبحانه وتعالى أن يتفاوت فضله على عباده، فيكون منهم الغني ومنهم الفقير، ومنهم الصحيح المعافى، ومنهم المريض السقيم، ومنهم القوي، ومنهم الضعيف.

 

ونفوس المؤمنين نفوس تتربّى على التقوى، وتمتلئ بالضمائر الحية الحيية الرحيمة. والمؤمن إذا آتاه الله من فضله ما حرم منه غيره، هذا المؤمن ذو الضمير الحي لن ينعم بفضل الله ونفسه مرتاحة، وهو يرى غيره محروماً مما يتمتع هو به، حتى لو كان ما فضل به هو من قبيل الكماليات، وسيجد غصّة كلما تنعّم بعطاء الله. ومع أنه ليس هو المسؤول عن حرمان المحرومين، فإنه سيبقى يحسُ بالذنب، إذ هو ينعم بالفضل والزيادة وغيره محروم. وقد لوحظ الشعور الشديد بالذنب عند من نجا من المذابح ومعتقلات الاعتقال في الحروب الشرسة، بينما قُتل من كان معه من الأسرى. وهذا الناجي يشعر بالذنب لمجرد أنه نجا، بينما هلك الآخرون، مع أنه لا ذنب له في هلاكهم، ولم ينجُ على حسابهم إنما هو قدره وأجله، فكيف سيكون حال المؤمن صاحب الضمير الحي إذا تمتع بينما الآخرون محرومون؟

 

إنه لا بد سيعاني من إحساس بالذنب، مشابه لإحساس الناجين من الكوارث والمذابح التي مات فيها غيرهم. ونفس المؤمن لن ترتاح حتى يُشرك المحرومين فيما هو فيه من نعمة، ولكن هل يوزّع كل ما لديه من فضل الله على المحرومين لينضم اليهم، ويكونوا في الفقر والحرمان سواءً؟

 

إنّ هذا ليس هو الحل، فهو يعاكس الفطرة، كما يتعارض مع الحكمة التي من أجلها جعل الله فضله بين الناس متفاوتاً. وهنا تبرز الحكمة من فرض الزكاة على المؤمن يخرجها مما زاد عن حاجته مدة سنة كاملة، وتبرز الحكمة من تحديد الزكاة تحديداً لا غموض فيه، إنها اثنان ونصف بالمائة، يخرجها المؤمن من ماله الزائد عن حاجته، الذي بقي لديه سنة كاملة زائداً عن حاجته، ويهنأ بالسبعة والتسعين والنصف بالمائة الباقية لديه، يتنعّم بها بما أباحه الله له من الطيبات، دون أن يشعر بالإثم أو الذنب، وإن هو تصدق بأي شيء فوقها أحس بالرضا والارتياح الذي يشعر به المؤمن، كلما قام بعمل صالح تطوّعي يؤديه من تلقاء نفسه.

 

ولو أن الزكاة، وهي الحد الأدنى للصدقات، لم تحدّد برقم، وقام المؤمن بالتصدق بجزء من فضل الله عليه، ولنقل: إنه تصدّق بخمسة بالمائة فإنه قد يبقى لديه إحساس أنه مقصِّر في حق المحرومين، وأنه لا حقّ له في أن يتنعّم بالخمسة والتسعين بالمائة الباقية، وحتى لو زاد صدقته إلى عشرة بالمائة، فإنه سيبقى لديه القابلية للإحساس بالذنب والتقصير، وحتى لو زاد على العشرة بالمائة، أو العشرين بالمائة أو أكثر من ذلك، فإنه سيبقى من المؤمنين أناس ضمائرهم حيّة تحاسبهم، وتمنعهم من أن ينعموا بما بقي لديهم من فضل الله.

 

أما وقد حدّد الله مقدار الزكاة، فإن النفس ترتاح بعد أدائها، إذ يعلم المؤمن علم اليقين أن الله الحكيم الخبير قد فرض في أموال الأغنياء ما يسدُ حاجة الفقراء، فلا يستقل المؤمن مقدار الزكاة، وهو يعلم أن الله قد فتح باب القبول للصدقات التطوعية، وحثّ عليها، ووعد عليها الأضعاف المضاعفة إلى سبعمائة ضعف.

 

فالزكاة هي الحد الأدنى، وباب التطوع مفتوح، لكن الرسول ﷺ لم يأذن للصحابي بأن يتصدق بأكثر من ثلث ماله للفقراء حرصاً على حق الورثة. هذا بعد موت المؤمن، أما في حياته فإن عليه أن يحرص على من كلفه الله أن يعولهم، وينفق عليهم، فالأقربون أولى بالمعروف، وكل نفقة ينفقها على زوجه أو أولاده إنّما هي صدقة عظيمة الأجر، وأفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى كما قال النبي ﷺ، أي: الصدقة التي تُبقي المتصدق غنياً، لا التي تستهلك ماله، وتتركه فقيراً.

 

والصدقات بما فيها الزكاة، إنما هي عطاء مجسّد، يتجلّى فيه قمة النضج النفسي عند الإنسان؛ لأن الإنسان الناضج نفسياً هو الإنسان المعطاء.

 

ولما كان عمر أربعين سنة يمثّل ذروة النضج عند الإنسان كان أيضا كما بينت الدراسات النفسية عمر الانتقال إلى مرحلة العطاء، إذ فيه يبدأ الإنسان بتوجيه أكبر قدر من قدراته للعطاء للآخرين، بدءاً بأولاده وانتهاء بجميع أفراد البشرية. والعطاء إنما هو حُب تجسّد، والحب الناضج إنما هو حب العطاء لا حبّ الأخذ والانتفاع. ومن يراقب الأطفال وحبّهم يلاحظ أنه حب أخذ وانتفاع، فالطفل يحب أمه وأباه ليأخذ منهما، أما البالغ فيحب ليعطي ويضحي من أجل محبوبه، وإن كانت الرومانسية تجعل للحب عند المراهقين والشباب شكلاً مميزاً. إن الصدقات بما تمثّله من معاني الود، وبما تجسده من الحب، الذي تفيض به نفس الغني الشاكر على إخوته المحرومين، إن هذه الصدقات تُطهّر نفوس الأغنياء في الوقت نفسه من الشح والبخل والإمساك والتقتير ﴿...وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9].

 

ثم إن الصدقات تُطهّر نفوس المحرومين من أية مشاعر سخط تجاه الخالق، يمكن للحرمان أن يولّدها في نفوسهم، وتطهرهم من أي مشاعر عداوة موجهة إلى باقي أفراد المجتمع ناتجة عن الإحباط الذي يمكن للحرمان الزائد عن الحد أن يثيره في نفوسهم، وتطهرهم من أي شعور بالنبذ، والهجران، والقطيعة بينهم وبين المجتمع، ذلك أن الحرمان والفقر مع كثرة المسؤوليات قد تجعل الإنسان يحس بأن الله قد كرهه وهجره، وأن المجتمع لم يرحمه ولم يشعر به، فتمتلئ نفسه قلقاً وغيظاً، ويضعف شعوره بالانتماء إلى مجتمع لا يهتم به ولا يقف معه في محنته.

 

هذه المشاعر السلبية يمكن أن تؤدي إلى الكثير من الرذائل، ابتداء بالفاحشة والمخدرات، وانتهاءً بالجريمة أو الثورات الهوجاء المدمرة المدفوعة بالحقد، والحسد، وحب الانتقام.

 

وعودة إلى نفس المؤمن المتصدق، فإن للزكاة وغيرها من الصدقات أثراً  كبيراً في ملء النفس المؤمنة بالرضا والسعادة؛ إذ هي تحقيق للذات وهي تحقيق للخلافة في الأرض، عندما يتمثّل المؤمن من خلال الصدقات الكثير من صفات المولى، وأهمها: العطاء، فالله هو المعطي وهو المقيت.

 

وعندما ينجح المؤمن في أن يعطي للآخرين ويُدخل السرور إلى قلوبهم، فإنه يتمتع بالسعادة ويستشعر الرضا عن نفسه، لا العجب بها، والتكبر، والتعالي، إنما هو يرى أنه بعمله الصالح قد اقترب من الصورة المثالية للمؤمن التقي المستخلف في الأرض؛ التي يحلم دائماً في أن يصل إليها. وكلما اقترب واقع النفس البشرية من الصورة المثلى التي تسعى إلى تحقيقها، ازدادت هذه النفس طمأنينة، وخفّ قلقها وحزنها، ونعمت بالسعادة.

 

وتزكيهم:

الصدقات -وعلى رأسها الزكاة- تطهر نفوس المؤمنين، وهي في الوقت نفسه فيها النماء، والزيادة، والبركة، وهذه مكاسب اقتصادية تعمّ المجتمع المسلم أغنياءه وفقراءه. ولدور الزكاة وباقي الصدقات في النمو الاقتصادي في المجتمع جوانب اقتصادية بحتة، والجوانب الاقتصادية البحتة أترك بحثها لأصحاب الاختصاص في الاقتصاد، وان كنت أُشير هنا إشارة عابرة إلى أن الصدقات والزكاة بالذات تزيد من القوة الشرائية في المجتمع، إذ الزكاة توزّع حيث المال (إلا في أحوال خاصة) وعندما توزع على فقراء المجتمع، الذي أنفقها أغنياؤه، فإن الازدهار والرواج في أسواق المجتمع الناتجة عن هذه الأموال من زكاة وصدقات أخرى يعود نفعها على الأغنياء أنفسهم، لأنهم هم أصحاب التجارات والصناعات وغير ذلك.

 

والزكاة مع تحريم الربا تُوجد في المجتمع تفاعلات اقتصادية مختلفة كثيراً عما هو الحال في المجتمعات الغربية ذات الاقتصاد الحر، مع أن الاقتصاد في الإسلام حرّ إلى حدّ كبير، والذي يتابع الإجراءات التي تتخذها الدول الغنية هذه الأيام لعلاج الأزمة الاقتصادية التي ضربتهم يجد أنهم يقتربون بالتدريج من الاقتصاد الإسلامي حيث خفضوا سعر الفائدة على القروض من البنوك إلى نصف بالمائة في بريطانيا وإلى واحد وربع بالمائة في باقي دول الاتحاد الأوربي، وهم يقتربون من إلغائها نهائياً ليشجعوا على قيام مشاريع جديدة تشغل العاطلين، كما ضخت الحكومات مليارات الدولارات في المجتمع لتحسين قدرة الناس على الشراء لتنتعش أسواقهم من جديد، وهذا يذكرنا بالزكاة ودورها في تحسين قدرة المجتمع على الشراء مما ينشط التجارات والصناعات ويقي من الكساد.

 

وأعود إلى الجانب النفسي المؤثر في الاقتصاد الذي من خلاله تكون الصدقات عموماً، والزكاة خاصة، نماءً وزيادة وبركة للمجتمع. ولفهم هذا الجانب نعود لنتذكر الحكمة التي من أجلها فاوت الخالق سبحانه وتعالى في عطائه بين الناس، فكان منهم الفقير ومنهم الغني. وهذه الحكمة الهامة هي في إيجاد الدافع لدى أفراد المجتمع ليقبلوا العمل في المهن المختلفة الشاقة أو اليسيرة، كل بحسب احتياجه، وبحسب الفرصة المتاحة له، وهذه الفرص هي من فضل الله الذي يتفاوت من فرد إلى آخر.

 

وعندما توجد الحاجة المالية يوجد الدافع إلى العمل، فالنفس البشرية فيها شهوة الراحة، والكسل، والتفرغ للهو والتمتع، ولولا الحاجة فلربما لم يعمل من الناس إلا القلائل الذين سيكون عملهم مدفوعاً بدوافع نفسية أخرى. وكلما استغنى الإنسان مال إلى رفض العمل الشاق، أو رفض العمل ذي الأجر الرخيص، وسعى إلى عمل أقل مشقة، وأعلى أجراً. وقد بيّن المولى هذه الحكمة من تفاوت الناس في عطاء الله عندما قال: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍۢ دَرَجَـٰتٍۢ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًۭا سُخْرِيًّۭا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌۭ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: 32].

 

ومن خلال الزكاة والصدقات الأخرى يتحقق التكافل الاجتماعي في المجتمع، حيث تتأمن حاجة الفقير؛ الذي عجز عن العمل، أو الذي عمل لكن دخله لا يكفيه.

 

وفي القرن العشرين وجدت صيغ أخرى للتكافل الاجتماعي في المجتمعات الصناعية وبخاصة الغربية، لكنها لا تقوم على الصدقات بل على الضرائب المفروضة على الجميع، وفرض على أصحاب العمل أن يدفعوا إلى الهيئات المسؤولة عن الضمان الاجتماعي مبلغاً يكاد يعادل المرتب المدفوع للعامل أو الموظف لديهم، وذلك عن كل عامل أو موظف لديهم، وهذا يعني أن العامل الذي يتقاضى سبعة آلاف شهرياً يكلف صاحب العمل حوالي الأربعة عشر ألفاً، ومن هذا المال الإضافي الذي يدفعه صاحب العمل تقوم الحكومة بصرف رواتب لمن خسر عمله ريثما يحصل على عمل جديد. وهذا يؤدي إلى شعور العامل بقدر من الأمان، إذ لصاحب العمل الحرية في فصله من عمله متى شاء، وفيه قدر من الأمان للمجتمع حيث يستغني العاطل عن العمل عن الجريمة لتأمين احتياجاته الأساسية، لكن هذا النوع من الضمان الاجتماعي، وهذا الشكل من التكافل لا يخلو من مساوئ وأهم هذه المساوئ أن العاطل عن العمل يزهد فيما يعرض عليه من أعمال، ما لم يكن المرتب المعروض أكبر بكثير مما يحصل عليه شهرياً من الضمان الاجتماعي، فإن كان يتقاضى من الضمان الاجتماعي خمسة آلاف مثلاً وأتته فرصة عمل مرتبها سبعة آلاف، فإنه سيرى أنه سيعمل من أجل ألفين، ولا يرى الألفين كافيين مقابل جهده وعمله، فيرفض هذا العمل، وينتظر عملاً بأجر أعلى، والبعض قد يُؤثر الحياة البسيطة بمرتب الضمان الاجتماعي، ويزهد في العمل كله.

 

وكل هذا يؤدي إلى ارتفاع الأجور في المجتمع وغلاء السلع المنتجة فيها وغلاء الخدمات.. وهذا ناتج إلى حد كبير عن عدم تحرج العاطل عن العمل من البقاء معتمداً على المعونة الاجتماعية، لأنها تأتيه من الحكومة، والحكومة بالنسبة للمواطنين كالأب بالنسبة لأولاده لا يخجلون من الانتفاع من عطاياها، أما الزكاة وباقي الصدقات، فإنها تشكل مصدر أمان للفقير؛ الذي يمكن أن يفقد عمله أو صحته، وأمان للمجتمع من أية جريمة ناتجة عن الاحتياج أو عن الحقد والحسد. لكن الزكاة وباقي الصدقات وإن كان الأصل أن تجمعها الحكومات وتوزعها على مستحقيها، فإن المؤمن يتحرّج من الاعتماد عليها، ومن التكاسل عن العمل طالما أنه يأتيه من الزكاة ما يكفيه، فالمؤمن الذي يحتاج خمسة آلاف في الشهر لنفقته ونفقة عياله، سيعمل ولو بثلاثة آلاف، كي يقلل من اعتماده على الصدقة ما أمكن، فكيف لو أتته فرصة عمل تؤمن له الخمسة آلاف كلها؟ أتراه يتردد أو يترفّع عنها؟ إنه يعلم أن الصدقة بما فيها الزكاة لا تحلّ لقويً، ولا لذي مِرَّة سويً إلا ريثما يعمل، وإلا للضرورة الحقيقية.

 

عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ: "لا تحلُّ الصَّدقةُ لغنيٍّ ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيٍّ" قَالَ ‏ ‏أَبُو مُحَمَّد ‏ ‏يَعْنِي قَوِيٍّ (رواه الدارمي في سننه). وقد كَرَّه النبي ﷺ المؤمنين من السؤال، فقال: "ما يَزالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حتَّى يَأْتِيَ يَومَ القِيامَةِ وليسَ في وجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ" (رواه مسلم).

 

وقال ﷺ: "مَن سَأَلَ النَّاسَ أمْوالَهُمْ تَكَثُّرًا، فإنَّما يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ، أوْ لِيَسْتَكْثِرْ" (رواه مسلم). وهذا الحديث يبيّن حرمة أكل الصدقة لمن ليس في حاجة إليها. كما حثّ النبي ﷺ على العمل مهما كان شاقا، وقليل الأجر، ليستغني المؤمن عن الصدقات بأنواعها بما فيها الزكاة. قال ﷺ: "لأَنْ يَغْدُوَ أحَدُكُمْ، فَيَحْطِبَ علَى ظَهْرِهِ، فَيَتَصَدَّقَ به ويَسْتَغْنِيَ به مِنَ النَّاسِ؛ خَيْرٌ له مِن أنْ يَسْأَلَ رَجُلًا، أعْطاهُ، أوْ مَنَعَهُ ذلكَ، فإنَّ اليَدَ العُلْيا أفْضَلُ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وابْدَأْ بمَن تَعُولُ" (رواه مسلم).

 

وقد تحمّل أحد الصحابة حِمالةً، أي: مبلغاً من المال تكفل بدفعه ليفضّ خصومة بين متنازعين وذلك بهدف الإصلاح فيما بينهم، فلجأ إلى النبي ﷺ طالباً المعونة في هذه الحمالة التي تحملها، يقول قبيصة بن مخارق الهلالي: "تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً، فأتَيْتُ رَسولَ اللهِ أسْأَلُهُ فيها، فقالَ: أقِمْ حتَّى تَأْتِيَنا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لكَ بها، قالَ: ثُمَّ قالَ: يا قَبِيصَةُ، إنَّ المَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ إلَّا لأَحَدِ ثَلاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ له المَسْأَلَةُ حتَّى يُصِيبَها، ثُمَّ يُمْسِكُ، ورَجُلٌ أصابَتْهُ جائِحَةٌ اجْتاحَتْ مالَهُ، فَحَلَّتْ له المَسْأَلَةُ حتَّى يُصِيبَ قِوامًا مِن عَيْشٍ -أوْ قالَ: سِدادًا مِن عَيْشٍ- ورَجُلٌ أصابَتْهُ فاقَةٌ حتَّى يَقُومَ ثَلاثَةٌ مِن ذَوِي الحِجا مِن قَوْمِهِ: لقَدْ أصابَتْ فُلانًا فاقَةٌ، فَحَلَّتْ له المَسْأَلَةُ حتَّى يُصِيبَ قِوامًا مِن عَيْشٍ -أوْ قالَ: سِدادًا مِن عَيْشٍ- فَما سِواهُنَّ مِنَ المَسْأَلَةِ -يا قَبِيصَةُ- سُحْتًا، يَأْكُلُها صاحِبُها سُحْتًا" (رواه مسلم).

 

وعن أبي سعيد الخدري نَّ نَاسًا مِنَ الأنْصَارِ سَأَلُوا رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فأعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فأعْطَاهُمْ، حتَّى إذَا نَفِدَ ما عِنْدَهُ قالَ: ما يَكُنْ عِندِي مِن خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَن يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَن يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَن يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَما أُعْطِيَ أَحَدٌ مِن عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ" (رواه مسلم ).

 

إنها دعوة إلى العفة وغنى النفس. قال رسول الله ﷺ: "ليسَ الغِنَى عن كَثْرَةِ العَرَضِ، ولَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ" (رواه مسلم).

 

وعن مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله ﷺ تسعة أو ثمانية أو سبعة، قال: "كُنَّا عِنْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، تِسْعَةً، أوْ ثَمانِيَةً، أوْ سَبْعَةً، فقالَ: ألَا تُبايِعُونَ رَسولَ اللهِ؟ وكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ ببَيْعَةٍ، فَقُلْنا: قدْ بايَعْناكَ يا رَسولَ اللهِ، ثُمَّ قالَ: ألَا تُبايِعُونَ رَسولَ اللهِ؟ فَقُلْنا: قدْ بايَعْناكَ يا رَسولَ اللهِ، ثُمَّ قالَ: ألَا تُبايِعُونَ رَسولَ اللهِ؟ قالَ: فَبَسَطْنا أيْدِيَنا وقُلْنا: قدْ بايَعْناكَ يا رَسولَ اللهِ، فَعَلامَ نُبايِعُكَ؟ قالَ: علَى أنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْرِكُوا به شيئًا، والصَّلَواتِ الخَمْسِ، وتُطِيعُوا، (وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً)، ولا تَسْأَلُوا النَّاسَ شيئًا. فَلقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أحَدِهِمْ، فَما يَسْأَلُ أحَدًا يُناوِلُهُ إيَّاهُ" (رواه مسلم).

 

ولحكمة عظيمة حرّم الله على محمد ﷺ وعلى آله أن يأكلوا الصدقة. قال أبو هريرة رضي الله عنه: "أَخَذَ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ تَمْرَةً مِن تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا في فِيهِ، فَقالَ رَسولُ اللهِ : كِخْ كِخْ، ارْمِ بهَا، أَما عَلِمْتَ أنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ؟" (رواه مسلم).

 

وذات مرة قصد شابان من آل محمد إلى رسول الله ﷺ وسلم يريدان منه أن يوظفهما على الصدقات، كي يستعينا بما يناله العاملون على الصدقات منها، وذلك ليتزوجا، فقال لهما النبي ﷺ: "...إنَّ الصَّدَقَةَ لا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ؛ إنَّما هي أَوْسَاخُ النَّاسِ..." (رواه مسلم).

 

وفي رواية ثانية لمسلم: أن رسول الله ﷺ قال لهما: "...إنَّ هذِه الصَّدَقاتِ إنَّما هي أوْساخُ النَّاسِ، وإنَّها لا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ، ولا لِآلِ مُحَمَّدٍ..." (رواه مسلم).

 

والذي يتأمل هذه النصوص يستطيع أن يتصور كيف تقوم الزكاة وغيرها من الصدقات بكفاية المحتاجين في المجتمع، دون أن تُضعف الدافع لديهم للعمل، ودون أن ترفع الأجور في المجتمع، ودون أن ترتفع من جراء ذلك الأسعار، وتضعف قدرة الصناعة في ذلك المجتمع على منافسة صناعات تنتجها مجتمعات فيها يد عاملة رخيصة. وهذا لا يعني أن الإسلام يحرص على بقاء فئة معدمة شديدة الفقر في المجتمع، إذ كلما ارتفع مستوى الحياة في المجتمع، كلما ارتفع الحد الأدنى للدخل الذي يحل للمسلم أن يأخذ من الزكاة والصدقات الأخرى إن قلّ دخله عنه، فليست القضية مجرد لقمة طعام تمنع من الموت جوعاً، أو قطعة ثياب تستر العورة.

 

لكن التفاوت في المجتمع مفيد للمجتمع، ولا تستقيم الحياة إلا به، فلو انعدم الفقراء من مجتمع استورد الفقراء من المجتمعات الأخرى، وهذا ما نراه في المجتمعات الغنية التي تستورد اليد العاملة؛ التي ترضى بالعمل فيما يترفع عنه أهل ذلك البلد الأغنياء، أو لا يقومون به إلا بأجر مرتفع جداً. إن الزكاة وباقي الصدقات تحل مشكلة الفقر دون أن تضعف الدافعية للعمل ودون أن تتسّبب في الغلاء كما ذكرنا. وإن الإسلام شجع المسلم على العمل والكسب الحلال ليكون للزكاة فاعلاً لا آخذاً، ولم يرض النبي ﷺ من المسلم أن يتصدق بكل ماله لينضم بعدها إلى الفقراء المحتاجين.

 

روى أبو داود في سننه (الحديث رقم 1673) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله ﷺ إذ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب، فقال: يا رسول الله، أصبتُ هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله ﷺ، ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر، فأعرض عنه رسول الله ﷺ، ثم أتاه من خلفه، فأخذها رسول الله ﷺ فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته، فقال رسول الله ﷺ: "يأتي أحدُكم بما يملكُ فيقولُ : هذه صدقةٌ ثم يقعدُ يستكِفُّ الناسَ ؟ ! خيرُ الصدقةِ ما كان عن ظهرِ غنيً" (رواه الدارمي أيضا).

 

كما روي عن رسول الله ﷺ أنه قال: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ، أوْ خَيْرُ الصَّدَقَةِ عن ظَهْرِ غِنًى، والْيَدُ العُلْيا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وابْدَأْ بمَن تَعُولُ" (رواه ملسم). وروى الدارمي أيضاً "أنَّ أبا لُبَابةَ بنَ عبدِ المنذِرِ لمَّا تاب اللهُ عليه، قال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ مِن توبتي أن أهجُرَ دار قَوْمي وأُساكِنَك، وأن أنخلِعَ مِن مالي صدَقةً للهِ عزَّ وجلَّ ولرسولِهِ، فقال رسولُ اللهِ : يُجزِئُ عنك الثُّلُثُ" فالثلث بمثابة حدّ أعلى.

 

وقد روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: "جَاءَنَا رَسولُ اللَّهِ يَعُودُنِي مِن وجَعٍ اشْتَدَّ بي، زَمَنَ حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَقُلتُ: بَلَغَ بي ما تَرَى، وأَنَا ذُو مَالٍ، ولَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي، أفَأَتَصَدَّقُ بثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لا، قُلتُ: بالشَّطْرِ؟ قَالَ: لا، قُلتُ: الثُّلُثُ؟ قَالَ: الثُّلُثُ كَثِيرٌ، أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، ولَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بهَا وجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حتَّى ما تَجْعَلُ في فِي امْرَأَتِكَ".

 

     وقد روى أبو داود والدارمي حادثة قد تتناقض مع ما سبق، إذ رويا عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: "أمرَنا رسولُ اللهِ يومًا أن نتصدقَ فوافق ذلك مالًا عندي فقلتُ اليومَ أسبقُ أبا بكرٍ إن سبقتُه يومًا فجئتُ بنصفِ مالي فقال رسولُ الله ما أبقيتَ لأهلك قلتُ مثلَه قال وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكلِّ ما عندَه فقال له رسولُ الله ما أبقيتَ لأهلِكِ قال أبقيتُ لهم اللهَ ورسولَه قلتُ لا أسابِقُكَ إلى شيءٍ أبدًا".

 

لكن هذه الحادثة التي تفيد الرخصة في أن ينفق المؤمن نصف ماله، أو كلّ ماله، إنما كانت في ظروف طوارئ وجهاد، إذ بلغ رسول الله ﷺ أن الروم جمعت الجموع تريد غزوه في بلاده، وكان ذلك في زمن عسرة الناس وجدب البلاد وشدة الحر، فأخذ النبي ﷺ يحثّ المسلمين الموسرين على تجهيز المعسرين الذين ليس لديهم مؤونة وسلاح وراحلة؛ ليتمكنوا من الخروج مع الرسول ﷺ للقاء الروم في تبوك، وقد سمي الجيش الذي تكون في تلك الغزوة: جيش العسرة. ولتجهيز جيش العسرة أتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ماله، وأتى عمر رضي الله عنه بنصف ماله، وأتى عثمان رضي الله عنه بعشرة آلاف دينار وثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، وخمسين فرساً، حتى قال رسول الله ﷺ: (اللهم ارض عن عثمان فإني راضٍ عنه). هذه هي الظروف التي قبل بها النبي ﷺ نصف مال عمر، وكل مال أبي بكر، وهذه ظروف استثنائية، المجتمع كله فيها مهدد.. إنها ظروف حياة أو موت لدولة الإسلام الناشئة، والاستثناء لا يلغي القاعدة، بل يؤكدها، والقاعدة أن الصدقة تكون عن ظهر غنى.

 

ولنتأمل هذه الآيات الكريمة التي يخاطب فيها رب العالمين رسوله ﷺ وهو يأمره بالصدقة، أو الكلمة الطيبة والقول الميسور إن لم يكن لديه ما يعطي السائلين، وذلك ريثما تأتيه رحمة من ربه، أي: خير من ربه يُمَكِّنُه من إعطاء أولئك السائلين. إنه في هذا السياق بالذات ينهى رب العالمين رسوله ﷺ وينهى معه كل مؤمن عن أن يبسط يده كل البسط، فيقعد ملوماً محسوراً، إنما هي الصدقة التي تترك المؤمن غنياً، لا التي تأكل ماله وتتركه في زمرة الفقراء المحتاجين، يقول تعالى: ﴿وَءَاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُوٓا۟ إِخْوَٰنَ ٱلشَّيَـٰطِينِ ۖ وَكَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورًۭا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍۢ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًۭا مَّيْسُورًۭا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًۭا مَّحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرًۢا بَصِيرًۭا (30) [الإسراء: 26-30].

 

إن المؤمن قد يحسُ بالتقصير والذنب إن أمسك خيراً لديه، ولم يعطه للسائلين والفقراء، لكن الله يطمئن المؤمن أن الله هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدره، أي: يضيّقه على من يشاء لحكمة يراها، إنما على المؤمن الاعتدال بحيث تكون صدقته عن ظهر غنىً، وبحيث يبقى من المؤمنين الذي قال عنهم المولى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ (1) ٱلَّذِينَ هُمْ فِى صَلَاتِهِمْ خَـٰشِعُونَ (2) وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَوٰةِ فَـٰعِلُونَ (4) [المؤمنون: 1-4].

 

وإنني لا أدعو المؤمنين إلى الإقلال من صدقاتهم، إنما أدعوهم لئلا يشعروا بالذنب عندما يقرؤون عن بعض الزهاد الصالحين أنهم كانوا ينفقون كل ما يأتيهم، فلو أن كل مسلم أخرج زكاة ماله فلربما لا يحتاج الأمر فوق الزكاة شيئاً، أو ربما لزم بعض الصدقات مع الزكاة.

 

والمؤمن الذي يقتصر في إنفاقه على جزء من ماله، ويبقي لنفسه أغلب ماله ليس مذنباً، ولا مقصراً، فبقاؤه غنياً يعني أنه سيتصدق مرات ومرات، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع. قال تعالى: ﴿...وَيَسْـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلْـَٔايَـٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة: 219]. قال القرطبي في تفسيره لهذه الآية الكريمة: (والعفو: ما سهُل، وتيسَر، وفضلَ، ولم يشق على القلب إخراجه.. فالمعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة).

تعليقات

لا توجد تعليقات بعد


تعليقك هنا
* الاسم الكامل
* البريد الإلكتروني
* تعليقك
* كود التحقق
 
 

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة