نظرات نفسية في العنف الزوجي
نظرات نفسية في العنف الزوجي
عندما نقول "العنف الزوجي" فإنّنا نعني بذلك قيام أحد الزّوجين -وهو الزّوج غالباً- باستخدام الإيذاء الجسدي كالضّرب المُبرّح، أو الإيذاء النَّفسي كالشّتم والإهانة والتّحقير والتّقليل من قدر الزّوج الآخر، أو الإيذاء عن طريق تحطيم الممتلكات الغالية للطَّرف الآخر، أو باستخدام التّهديد والتّخويف والإرهاب واستغلال الاحتياج المالي وغيره، كلُّ ذلك بهدف إخضاع الطَّرف الثَّاني وضمان السّيطرة عليه والتَّحكُّم به. وهذا العنف يقع عادةً من الزّوج على زوجته لكنَّه في بعض الحالات يقع من المرأة على زوجها، ويكون إمّا دفاعاً منها عن نفسها أو انتقاماً لإيذاءٍ وقع عليها من زوجها، وأحياناً تكون هي المعتدية.
وعلى العموم فإنَّ العنف الواقع من الزّوجة لا يَخْلُق جوّ الرُّعب والخوف والخضوع في العلاقة الزّوجيَّة كما يفعل العنف الواقع من الرَّجل على زوجته.
والعنف الزّوجي يُفسِد العلاقة بين الزّوجين ويُحوِّلها من علاقةِ حبٍّ متبادلٍ ورحمةٍ متبادلةٍ إلى علاقةِ خضوعِ الضَّعيف الخائف للقوّيِّ المُخيف المتجبِّر، وإن كان التَّعلُّق يستمرُّ في حالاتٍ كثيرةٍ ويجعل الزّوجة المقهورة لا تُفكِّر جديَّاً بإنهاء هذه العلاقة والتَّحرُّر منها، ذلك أنَّ التَّعلُّق ارتباطٌ نفسيٌّ لشخصٍ بآخر حتّى لو لم يكن الحبُّ موجوداً، إنَّما هو يقوم على الاعتماديَّة الّتي تشبه اعتماديّة الطّفل الصّغير على أمِّه وتعلُّقه بها حتّى لو كانت قاسيةً وتُسيء معاملته.
وللعنف الزّوجي الواقع على الزّوجة آثاره السَّيِّئة في نفسيّتها، وفي مقدِّمتها فقدانها للإحساس بالأمان والسَّكن النَّفسي الّذي كانت تبحث عنه من خلال الزَّواج والارتباط برجلٍ يحبُّها وتُحبُّه، كما يمكن أن يُسيطر عليها إحساسٌ بالقلق والخوف كلَّما كانت في حضرة زوجها، فهي لا تأمن غضبه، لذا تراها تحرِص على إرضائه يأيَّةِ طريقةٍ اتّقاءً لشرِّه وأذاه. وبتكرار العنف ينقص تقدير الزّوجة واحترامها لذاتها ممّا يجعلها معرّضة للقلق والاكتئاب وضعف الثِّقَّة بالنَّفس، كما يجعلها تتحمَّل المزيد من الإهانة والإذلال، ويزيد من شعورها بالضّعف والاعتماد على الآخرين وبخاصّة زوجها الّذي يُسيء معاملتها.
وفي المجتمعات الغربيَّة تلجأ كثيرٌ من الزّوجات ضحايا العنف الزّوجي إلى الخمر والمهدئات ويتحوَّلنَ إلى مُدمناتٍ، وقد يُحاولنَ الانتحار أو يُصبْنَ بالاكتئاب النّفسيِّ الشَّديد.
والعنف الزّوجي يُفَرِّخُ المزيد من العنف الزّوجي على مدى الأجيال المُتعاقبة، ذلك أنّه في الغالب يقع أمام الأطفال فيتعلَّم منه الصّبي أن يكون عنيفاً مع زوجته عندما يكبر، وتتعلَّم منه البنت أن تَلقِيَ الإهانة والإيذاء من الزّوج أمرٌ طبيعيٌّ، وقد وجَدَت الدِّراسات أنَّ 75% من الرِّجال الّذين يمارسون العنف الزّوجي شاهدوا العنف يقع بين والديهم عندما كانوا أطفالاً، كما إنَّ مشاهدة العنف بين الوالدين يزيد من نسبة الجنوح وانحراف السُّلوك عند الأطفال بنفس القَدر الّذي يزيده وقوع العنف والإيذاء عليهم أنفسهم.
وقد اقترح العلماء تفسيراتٍ مُتعدّدةً للجوءِ بعض الأزواج إلى العنف والقَسوة في تعاملهم مع زوجاتهم، منها نظرة هؤلاءِ الأزواج إلى زوجاتهم نظرتهم إلى شيءٍ يمتلكونه ولا يستغنون عنه، فيكون عنفهم محاولةً لضمان بقاءِ هذا الشَّيء في حَوزتهم وتحت سيطرتهم.
ومن التَّفسيرات أيضاً الظَّنُّ أنَّ الرّجولة تقتضي تَعالي الرَّجل على المرأة وعدم احترامها، وأنَّ التَّعامُل معها بنديَّةٍ ومساواةٍ فيه انتقاصٌ من رجولتهم (لذا يزداد عنفهم عندما يشعرون بما يهدِّد رجولتهم وشعورهم بالسِّيَّادة على زوجاتهم) كما قد يحدث إذا خسروا وظائفهم، أو إذا تفوَّقت الزَّوجة عليهم علميَّاً أو مهنيَّاً، (فكلّما حقَّقَّت زوجته نجاحاً في حياتها المهنيَّة افتعل حُجَّةً ليضرِبها)، أو إذا عانى الزّوج من إخفاقٍ جنسيٍّ، عند ذلك يلجأ إلى العنف والقوّة العضليّة لإثبات رجولته من جديدٍ. كما إنَّ من أسباب العنف الزّوجي عدم قدرة الزّوجين على حلِّ نزاعاتهما بطرقٍ ناجحةٍ.
والزّوج المعتدي يدَّعي دائماً أنَّ زوجته استفزَّته وألجأته إلى ضربها وإيذائها، لكن من الخطأ تحميل المسؤوليَّة للضحيَّة، فمع أنَّ الزَّوجة شاركت في الشِّجار والجِدال لكن اللّجوء إلى العنف كان اختيار الزّوج وهو المسؤول عن اختياره، ولو وقع منه العنف على شخصٍ غير زوجته فهل يَقبَل منه أحدٌ حجَّةَ الاستفزازِ؟
إنَّ الرَّجل لا يلجأ إلى العنف لأنَّه فقد السَّيطرة على نفسه بل لأنَّه يسعى إلى السَّيطرة على زوجته وإخضاعها لسطوته.
ولا يمكن أن نُغْفِلَ دور الخمر والمخدِّرات وانحراف شخصيَّة الزَّوج في العنف الزَّوجي، فالسَّكران عدواني، والشَّخص فاسد الشَّخصيَّة فاقد الضَّمير لا يتورَّع عن إيذاء زوجته بأبشع الصّور من أجل السّيطرة عليها وإجبارها على فعل ما يُريد رغماً عنها.
وقد بيَّنت الدِّراسات أنَّ الأزواج العنيفين يأتون من كلِّ الطّبقاتِ والمستوياتِ الثَّقافيَّةِ والمهنيَّةِ، وبناءً على ذلك يُفسَّر العنف الزّوجي على أنَّه سلوكٌ تعلَّمه الزّوج وحقَّق عن طريقه ما يريد، ويَشعُر أنَّه بإمكانه اللّجوء إليه كلَّما لَزِمَ، وحلّ المشكلة يكمن في تعلُّم سلوكٍ بديلٍ وفي إبطالِ هذه الإمكانيَّة للّجوء للعنف عن طريق تجريم العنف الزَّوجي والمعاقبة عليه بشدّةٍ بحيث يُصبح خياراً باهظ الثَّمن.
لكن لا بدَّ لنا من تبيين الفرق بين العنف الزّوجي الّذي تحدَّثنا عنه والضَّرب الّذي أباحه الله للزّوج في حالِ نشوزِ زوجته وتمرُّدها على قوامته، وذلك من حيث الدَّافع النَّفسيِّ والهدف المرجو من كلٍّ منهما، وقبل ذلك نتذكَّر أنَّ المولى عزّوجل لم يخص المرأة بالضّرب إذا حادت عن الصّواب، إنَّما في المجتمع المسلم يُضْرَب الرَّجل إذا وقع في حدٍّ من حدود الله أو غير ذلك ممّا يستوجب العقوبة، ويُضْرَب الطّفل ابن عشر سنين إن رفض أن يُصلِّيَ، وّتُضْرَب المرأة النَّاشز، ومع أنَّ الله شرَّع الضَّرب إلّا أنَّه لم يأذن بالشَّتم والتَّحقير ولا حتّى لزانيّةٍ أو سَكيرٍ. لكن الّذي يحتاج إلى الإيمان والتَّسليم لله تعالى هو إعطاؤه الصَّلاحيَّة للزَّوج للّجوء إلى الضَّرب وكأنَّ الزَّوج حاكمٌ محدود الصَّلاحيَّة في أُسرته.
والضَّرب المُباحِ للزّوج ضربٌ غير مُبرّحٍ ولا مؤذٍ، ولا يحقُّ له اللّجوء إليه ما لم تسبقه الموعظة الحسنة الّتي لم تَنجح في إقناع الزّوجة لتعودَ إلى جادّة الصّواب، وما لم يسبقه الهجر في المَضجع الّذي طال ولم يدفع الزّوجة إلى التَّوقُّف عن تمرُّدها، وعندها يأتي الضَّرب الخفيف بمثابةِ محاولةٍ ثالثةٍ لإعادةِ الزّوجة إلى الطّاعة والتّعاون، فإن لم تنجح هذه المحاولة يتمُّ الانتقال إلى المرحلة الّتي بعدها وهي طلب العون من خارج الأسرة، مِن حَكَمٍ من أهله وحَكَمٍ من أهلها يبحثان أسباب الخلاف والنّشوز ويسعيان إلى حلٍّ يُرضي الطّرفين، وإلّا كان الطّلاق والتّسريح بالإحسان. وفي عصرنا هذا يُمكِن للمُختصِّ في العلاج الزّوجي أن يقوم بدور الحَكَمين وقد يكون أقدر منهما على الإصلاح بين الزَّوجين بحُكْمِ الخِبرة والاختصاص.
إذن الضَّرب المُباح في الشَّرع ضربٌ لا يتمُّ في ذروةِ الغضب والشِّجار، بل يسبقه مرحلتان يتجلّى فيهما الصَّبر وضبط النَّفس عند الزّوج، وهو ضربٌ يهدف إلى تذكير الزّوجة بوجوب الطّاعة للزّوج، تلك الطّاعة الّتي تستمدُّ شرعيَّتها من أمر الخالق بها، وتكون بالتّالي طاعةٌ لله وعبادةٌ لا خضوعاً لزوجٍ قوِّيِّ العضلات.
أمّا الضّرب في العنف الزَّوجي فيقع تنفيساً عن الغيظ والنّقمة المُتراكمة، ويكون عادةً والزّوج في أشدِّ غضبه وانفعاله، والعنف الزّوجي يهدف إلى الانتقام والتَّشفِّي وإلى الإخضاع والإرهاب. وهو يعطي الزَّوج سلطة على زوجته مستمدّة من خوفها من بطشه لا من طاعتها لخالقها، حيث المؤمنة تطيع زوجها خوفاً من ربِّها لا خوفاً من زوجها، إنّها سلطةٌ تستمدُّ شرعيَّتها من قوّة الزّوج وضعف الزّوجة، أي من شريعة الغاب، وشتّان ما بين العنف الزَّوجي والضّرب المُباح في الشَّرع.
ومن ناحية أُخرى فإنّ العنف الزّوجي يستمرُّ ويشتدّ في قسوته ووحشيّته حتّى يُحقِّق الإخضاع المطلوب، أمّا الضّرب المُباح فلا يجوز فيه الوصول إلى حدِّ القَسوة أو الإيذاء أبداً، ولا مبرِّر لتكراره والتَّمادي فيه، إنَّما هو محاولةٌ للحفاظ على الأسرة إمّا أن تنجح أو أن تخفق، فإن أخفقت كان لا بدَّ من الانتقال إلى مرحلة الحكمين. ومع أنَّ الضّرب كمحاولةٍ لعلاج تمرُّد الزّوجة ونشوزها خيارٌ متاحٌ للزّوج فإنَّ النَّبي ﷺ لم يحبِّذه على الإطلاق، وبالتّالي ليس الضَّرب مرحلةٌ إجباريَّةٌ لا يجوز تجاوزها إلى ما بعدها إن لم ينجح ما قبلها، بل الحكمة تقتضي من الزّوج تجاوزها إن لم يتوقَّع منها الفائدة المرجوّة، فهو أدرى بشخصيّة زوجته ونشأتها وثقافتها وغير ذلك من عوامل تُؤثِّر في نتيجة الضّرب إن وقع.
الضّرب المشروع يهدف إلى تحطيم العظمة الوهميَّة النَّرجسيَّة الّتي تدفع إلى التّمرُّد أحياناً (السّيكوباثيّة) ولا يهدف إلى الإذلال وتحطيم قَدَرِ الذّات.