الخلافات الزوجية وآثارها على الأولاد
الخلافات الزوجية وآثارها على الأولاد
لا بدَّ للحياة الزَّوجيّة من حدوث الخلافات فيها لأنّها بكل بساطة علاقة تنطوي على التشابك والتداخل والاعتماد المتبادل بين الزَّوجين بشكل لا نجده في أية علاقة أخرى، ولأنَّ الأزواج والزّوجات يدخلون هذه العلاقة ولديهم توقعات عالية وربما غير واقعيّة من الحياة الزَّوجيَّة، وعندما لا تتحقق توقعاتهم ويخيب أملهم يتصوّرون أنَّ شريك الحياة مقصِّر وجدير باللّوم، وتقع الخلافات الزَّوجيَّة عندما يخطئ أحد الزّوجين في حقّ الآخر خشية أن يتحوَّل السلوك الخاطئ الَّذي تمَّ تقبُّله وتمريره إلى حقٍّ مكتسب وسلوك معتاد، كما إنَّ كثيراً من الأزواج والزَّوجات يدخلون الحياة الزَّوجيّة قبل أن ينضجوا وتصبح لديهم هويّة واضحة بحيث يعرفون ما يريدون في حياتهم وإلى أين هم سائرون فيها، فتكثر خلافاتهم مع الزَّوج أو الزَّوجة. وقد يحدث الخلاف الزَّوجي أحياناً بسبب الإخفاق في التواصل ممّا يسبب سوء الفهم والخلاف.
وممّا يُؤسَف له أنَّ الزَّوجين عادة يتواصلان ويتفاعلان ويتعاشران باحترام ولباقة أقل ممّا يبديان للآخرين عندما يخالطون الغرباء، مع أنَّ الزَّوج أو الزّوجة أولى بالمعروف وأولى بالمجاملة وبالكلمة الطيبة.
ومن الناحية النّفسية يلاحظ أنَّه عندما ينخرط اثنان من البشر في حوار أو جدال أو نزاع يكون لدى كلّ منهما دافعان: الأوّل هو الحرص على تحقيق مكاسب معينة ينتزعها من الشخص الآخر، والثاني هو الحرص على العلاقة مع هذا الآخر. وعندما يتساوى الدافعان ويكون كلاهما قوياً يحرص الزَّوجان على حلِّ خلافهما بطريقة "حل المشكلات" لا بطريقة التدافع والصراع. وعندما يحرص الإنسان على المكاسب وينسى العلاقة فإنَّه يكون مساوماً صعباً وقد يلجأ إلى الإكراه ليحصل على ما يريد، لكنَّه يربح شيئاً ويخسر العلاقة مع شريك الحياة، لأنَّ نهاية الخلاف والحل الّذي يصلان إليه لا يكون عادلاً.
أمّا عندما يكون الحرص على العلاقة أكبر بكثير من الحرص على المكاسب فإنَّ الإنسان يكون في الخلاف ودوداً ومتنازلاً ومستعداً لأن يخسر هو ليربح شريك العمر، وبذلك تنحلّ المشكلة ويرضى الطرف الرابح ويرى أنّه محظوظ بأحسن زوج أو أحسن زوجة، لكن إن كان هذا الأسلوب هو المُتبع دائماً فسيأتي اليوم الّذي يشعر فيه الطرف الخاسر دائماً بالغبن والاكتئاب ولا يكون سعيداً بزواجه. أمّا عندما يكون الإنسان يائساً من العلاقة ويائساً من تحقيق المكاسب فإنَّه يستخدم أسلوب "أَخْسَرُ وأَرْحَلُ" وقد يشعر بالرَّغبة بالانتقام بحيث يكون هدفه الأكبر أن يحرم الطرف الآخر من تحقيق أيّة مكاسب وتكون إستراتيجيته "أَخْسَرُ أنا وتَخْسَر أنت". إنّ الحل الأمثل لأيّ خلاف هو الحل الّذي يكون فيه رابحان اثنان دون أن يكون هنالك أيّ خاسر. ولتحقيق هذا الحل الأمثل للخلافات الزَّوجيّة يجب دائماً التركيز على موضوع الخلاف وعلى الزّمن الحاضر لا على خلافات سابقة وأمور مضت وانقضت، كما يجب التركيز على موضوع الخلاف وعدم التركيز على شخص الزّوج أو الزّوجة أو على العلاقة الزَّوجيّة، أي يجب أن يكون هدف كل من الزَّوجين هزيمة المشكلة لا هزيمة الطرف الآخر. ولأنّ أيّ هجوم على الطرف الآخر أو أي تقليل من قدره يقود عادة إلى الهجوم على الزواج نفسه والنظر إليه على أنَّه زواج غير ناجح وبالتالي لا يستحق المحاولة لإصلاحه. ونجد الشعور نفسه عندما تطالب الزَّوجة بالطلاق أو يهدّد الزّوج بالطلاق، إذ عندها لا يبقى ما يدعو لبذل الجهد والتفكير بطريقة بنّاءة بهدف الإصلاح وتتطوَّر الأمور إلى الهجوم على العلاقة بشكل هدَّام ومُدمِر.
وعلى الزّوجين الحرص على التصالح والتعاون في حلّ الخلاف وليس على التنافس والصراع من أجل أن يكون هنالك في النهاية رابحان اثنان لا رابح وخاسر، وحتّى يتمكّن الزّوجان من ذلك لا بدّ لهما من التماس العذر وإحسان الظن بالطرف الآخر وعدم تفسير سلوكه تفسيرات سلبية، فعلى سبيل المثال: لو تأخرت زوجة موظفة في العودة إلى البيت ممّا فوَّت على الزّوجين فرصة للخروج أو غير ذلك، فالزّوج إمّا أن يرى في تصرفها عدم احترام لمشاعره فيغتاظ ويغضب وينفجر فيها فور وصولها، وإمّا أن يلتمس لها العذر ويحسن بها الظن وينتظر ليسمع منها تبريرها للتأخر، وهنا يتعاونان في حلِّ المشكلة أي سبب التّأخّر بدل أن يهاجم كلّ منهما الآخر.
إنَّ حل المشكلات بشكل عادل يحتاج إلى توكيد الذات والقدرة على حماية الحقوق، أمّا الحصول على المكاسب على حساب الآخرين فيحتاج إلى العدوان والقدرة على الظلم.
وقد وجد الباحثون أنَ الاعتقاد أنَّ القرارات في الحياة الزَّوجيّة يجب أن تكون مشتركة يهيئ إلى المزيد من الخلافات الزَّوجيّة، وبالتّالي فإنّ القبول بقوامة الزَّوج يُجنب الأسرة نزاعات كثيرة.
والخلاف الزّوجي يبدأ بتصرّف يثير غيظ الطرف الآخر فينفعل ويغضب ثمّ يهدأ الغضب والغيظ ويتخامدان، لكنَّ الزّوج الغاضب أو الزّوجة الغاضبة يقرِّر بعقله أنَّ غضبه يجب أن يستمر حتّى يعتذر الطرف الآخر أو يتراجع عن تصرفه الّذي أثار الغيظ أو حتّى تتحقق للغاضب مكاسب معينة، فيستمر الغضب بفعل الإرادة إلى أن تبدأ عملية إعادة الاتحاد والاندماج بين الزوجين من خلال حل المشكلة والتصالح وتختتم بإيماءة تقارب قد تكون قبلة أو عناقاً أو حتّى معاشرة جنسيّة.
ويجب أن نميِّز بين الغيظ والغضب، فالغيظ: هو الشُّعور والانفعال الداخلي الّذي يحسّ به الإنسان عندما يتعرَّض للإساءة، وهو انعكاسي ولا إرادي، وخلال ثانية يقرِّر الإنسان إمّا أن يُنْفِذَهُ ويعبّر عنه بالغضب الّذي هو انفعال ظاهر وهجومي أو أن يكظم غيظه فلا يشعر الآخرون أنّه مغتاظ، والدَّارسون للخلافات الزَّوجيّة يرون أنَّ كظم الغيظ عند الثانية الأولى من الانفعال وعدم التورط في الغضب الّذي يستدعي عادة الالتزام بالغضب والاستمرار فيه، يرون أنَّ كظم الغيظ يوفِّر على الزَّوجين آلام خلاف زوجي ويجنبهما النزاع والشّجار، لكن الملاحظ أيضاً أنَّ الكثير من النّاس يستمتعون بالغضب وما يجلبه من مكاسب من الطرف الثاني ومحاولة إرضاء وتطييب خاطر، وهذا نوع من الاستغلال للطرف الآخر، لذا كان الأمر النّبويِّ الكريم "لا تغضب" لأنَّ الإنسان بيده أن يغضب أو أن لا يغضب، وإن كان ليس بيده أن يغتظ أو أن لا يغتظ.
ثمّ لدى الزَّوجين فرصة ثانية لقطع دورة النزاع الزّوجي وذلك بعد انتهاء حدة الغضب الأولي الّذي لا يكون شديداً لأكثر من ثوانٍ، حيث يمكن التجاوز والاكتفاء بما حدث دون الالتزام بالموقف الغاضب، أمّا عندما يتصعَّد الموقف بإطلاق التهديدات فيضطر الغاضب إلى المبالغة في غضبه أكثر ممّا يستدعي الموقف وذلك حفاظاً على ماء وجهه بعد أن أرغى وأزبد.
وفي مرحلة إعادة توحد الزّوجين من خلال حلّ المشكلة يجب الحرص على الإصغاء للطرف الآخر إصغاء من يريد أن يفهم الآخر لا من يريد الرد عليه وإفحامه وإثبات خطئه وتبرئة النفس، أي أن يكون ما بينهما حواراً لا مراءً ولا جدالاً.... وقد لُوحِظ في الدراسات أنّه عندما يحتدم الحوار بين الزّوجين يقوم أحدهما بقول شيء فيه دعابة أو ما شابه الهدف منه تلطيف الموقف، ويسمّى ذلك محاولة الإصلاح، والزّوج الآخر مدعو إلى الاستجابة لها بحيث يهدأ النزاع وتخفّ حدته كمقدمة لحلّه.
ويجب التلطّف في الكلام حتّى أوقات الشّجار لأنّ الشّجار ينقضي ويُنسى أمّا العبارات المهينة والجارحة فيبقى أثرها في النفس طويلاً، قال تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً (53)﴾ [الإسراء: 53].
ثمَّ يجب الشكوى من الطرف الآخر باستخدام ضمير المتكلِّم "عندما تتأخرين هكذا دون اتصال بي أشعر أنكِ لا تحترمينني" وليس بضمير المخاطب حيث اللوم والاتهام "أنتِ أهنتني ولم تحترميني" حيث الاتهام واللوم يجعل الطرف الآخر لا يهمه إلّا الدفاع عن نفسه ونفي التهمة عنها، بينما أسلوب ضمير المتكلِّم يجعله يفكِّر فيما يسمع.
والعنف أسوأ وسيلة يلجأ إليها الأزواج لحلِّ الخلافات الزَّوجيّة، فالضرب المباح في القرآن ضرب رمزي، ثمَّ هو ضرب في حال النشوز أي الترفع عن طاعة الزّوج لا في حال الخلاف بكلّ أنواعه. والعنف الزّوجي سواء بالصراخ والشتائم أو بالضرب وتدمير الأشياء يولِّد في نفوس الأطفال حالة من الرعب والقلق، وإذا تكرَّر قد يؤدِّي إلى انحراف بعضهم أو إصابة بعضهم بالأمراض النفسيّة أو إلى الكراهيّة للجنس الآخر وإلى كراهيّة الزّواج، حيث تمثَّل حياة الوالدين المشحونة بالعنف تجربة سيئة تنفر الأولاد من الزّواج.
إنَّ الخلافات الزَّوجيّة تشكِّل ضغطاً نفسيَّاً على الأولاد صبياناً كانوا أو بناتاً، ويجب تجنُّب ا لشّجار أو الاختلاف أمام الأولاد ما أمكن، لأنَّ الأسرة تُمثِّل بالنسبة للطفل والمراهق واحة الأمان والطمأنينة الّتي يجد فيها السكينة والشّعور بالأمن، والخلافات دائماً تُمَثِّل بالنسبة للأولاد تهديداً للأسرة فيخافون من الطلاق وتفكُّك الأسرة ويملأ القلق النفسي قلوبهم الصغيرة.
والواقع أنَّه لا بدَّ من حدوث بعض الخلافات أمام الأولاد أحياناً، فإن قدر وحدث الخلاف أمامهم فعلى كلّ من الزّوجين أن يملك نفسه عند الغضب، وأن يجعل من الخلاف وحلِّه درساً مفيداً في الحياة للأولاد، لأنَّ الأولاد يتعلَّمون من أبيهم كيف يتصرَّف الإنسان كأب وكزوج، ويتعلَّمون من أمهم كيف تتصرّف المرأة كأم وكزوجة، وكلّ ما يحدث أمام الأولاد يعلِّمهم شيئاً عن الحياة، فإن كان خاطئاً تعلَّم الأولاد أساليب خاطئة في الحياة، وإن كان صائباً تعلَّموا السلوك القويم. وعندما يحلّ الزَّوجان الخلاف بطريقة حل المشكلات لا بطريقة الصراع والقتال يتعلَّم الأولاد ذلك منهما، وينعكس ذلك على سلوكهم في صغرهم وفي كبرهم.
ومن الأخطاء الّتي يرتكبها بعض الآباء وبعض الأمهات عند الاختلاف مع شريك الحياة: القيام بتحزيب الأولاد ضد أبيهم أو ضدّ أمهم، وشحن عقولهم ضد الطرف الآخر، ممّا يولِّد في نفوسهم القلق الشديد لأنَّهم في عمر أصغر من أن يتحمّلوا ضغط المشكلات الزَّوجيّة، ويولِّد في نفوسهم الصراع النفسي بين ولائهم وحبهم لأبيهم وولائهم وحبهم لأمهم. والأولاد من الجنسين بحاجة إلى صورة مشرقة لكلّ من الأب والأم من أجل أن تتكوَّن شخصياتهم سويّة، ومن أجل تشرُّب القيم والأخلاق من الوالدين.
وليعلم الأب أنَّ أولاده بحاجة إلى علاقة حميمة مع أمهم مهما كان خلافه معها شديداً، ولتعلم الأم أنَّ أولادها بحاجة إلى علاقة حميمة مع أبيهم مهما كان خلافها معه. ويجب في جميع الأحوال ترك الأولاد على الحياد في حال اختلاف الوالدين، ويجب إشعارهم بوضوح أنَّ علاقتهما الحسنة مع أحد الوالدين لا تزعج الوالد الآخر رغم الخلاف، هذا إن كان الوالدان حريصين على مصلحة أولادهما أكثر من حرصهما على الانتقام، أو على استمداد المؤازرة من الصّغار، وفي هذه الحالة نعتبر المراهق صغيراً ونحميه من توترات هذه المواقف كما نحمي الأطفال. ولا يكون حلّ الخلاف الزّوجي كاملاً وناجحاً ما لم تُتَوِّجْه المغفرة والتّسامح من القلب، بحيث تصفو القلوب ويعود الحب.
وهذه المغفرة والتسامح تُشكِّل درساً رائعاً للأولاد الّذين شهدوا الخلاف ثمَّ شهدوا النهاية السّعيدة، وعلى العكس لو لم يكن حلّ الخلاف ناجحاً وبقي في القلوب غيظ وحقد متراكم فإنَّ الجو العاطفي للأسرة كلها يصيبه الخلل وتختفي المودّة والرَّحمة، وتحل العداوة والبغضاء، ويعاني الأطفال أشدّ المعاناة.