نعمة الوجود
نعمة الوجود
في عصرنا هذا، وبعيداً عن هداية الله، بحث الفلاسفة والأدباء الوجوديون في أسباب القلق النفسي الإنساني، فوصلوا إلى أن القلق والمعاناة النفسية أمران ملازمان للوجود الإنساني، مجرد الوجود في هذه الحياة، إذ طالما أن الإنسان وُجِد، فلا بد له من مواجهة القلق والمعاناة.
ولكن مع الإيمان وهداية رب العالمين، يصبح الوجود، مجرد الوجود، نعمة ما بعدها نعمة، فالذي يسر الله له سبيل الهداية، وأعانه على التقوى، وبشره النبي محمد ﷺ أن جنة الخلد في انتظاره، حيث الخلد، وحيث السلام النفسي، والمتع بأنواعها كافة، حيث أعد الله للمؤمنين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر... المؤمن الذي عرف هذا، لم يكن ليسره، لو أن الله لم يخرجه إلى هذا الوجود، مع أن هذا الوجود، وفي المرحلة الدنيوية فيه الكبد والكدح والمشقة، وفيه الابتلاء والامتحان، وفيه خطورة الوقوع فيما يؤدي إلى العذاب في نار جهنم. لكن المؤمن الذي استعان بالله على الهداية، والثبات على الحق، ويتوقع أن يدخله الله الجنة وهو مطمئن إلى أن الله لن يظلم أحداً، هذا المؤمن، يصبح وجوده نعمة كبيرة، تهون أمامها أية صورة من صور الحرمان التي تزعج الآخرين، فالحرمان مؤقت، وهنالك الجائزة العظيمة.
فما أعظم فرحة المؤمن أن أتاح الله له دخول هذا الامتحان، وأعانه على الهداية، ووعده أن يهديه سبله ما دام يجاهد في الله، كي تكون الجنة محطته الأخيرة، ودار مقامته السرمدية.
وهذا الوجود الذي رآه الوجوديون المتشائمون ملازماً للقلق والمعاناة، هذا الوجود تحرص عليه النفس حرصاً ما بعده حرص، لذا كان أهم أسباب القلق الإنساني: خوفه على هذا الوجود، ورعبه من العدم.
ومن دون الإيمان بالله واليوم الآخر، يصبح الموت في نظر الإنسان عودة إلى العدم المرعب، ويعيش هذا الإنسان في خوف دائم من الموت.
ولربما أدت به نظرته إلى الموت على أنه نهاية الوجود، إلى الحرص على استغلال كل لحظة من حياته في المتع الحسية، ولا يهم عندها أن تكون المتع من حلال أو حرام، فيقع في الخمر، والمخدرات، والعلاقات المحرمة، ولا يتورع عن السرقة، أو غير ذلك من جرائم، من أجل الحصول على المتعة.، ليملأ بها حياته القصيرة التي يرى العدم نهاية لها.
لكن المؤمن يتمتع بالوجود نفسه.، لأنه يعلم أن الإنسان خُلِق ليبقى، وأن الله قد ضمن له الخلود، ويعلم أن الموت ليس عودة إلى العدم واللا وجود، بل الموت حالة من حالات الوجود، بينه وبين النوم شبه كبير.
وقد سأل الصحابة رسول الله ﷺ: "يا رسولَ اللَّهِ أينامُ أهلُ الجنَّةِ؟ قال: لا النَّومُ أخو الموتِ وأهلُ الجنَّةِ لا يموتونَ ولا ينامونَ" (رواه البزار والطبراني والبيهقي بإسناد صحيح عن جابر كما قال العجلوني رحمه الله).
وكان ﷺ إذا استيقظ من نومه يقول: "الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أحْيانا بَعْدَ ما أماتَنا وإلَيْهِ النُّشُورُ" (البخاري).
ويتشابه الموت والنوم في أمر هام، وهو انعدام الشعور بالزمن... فالنائم إذا قام من نومه لا يمكنه أن يعرف كم أمضى من الوقت نائماً، إلا أن ينظر إلى الساعة، أو أن يبحث في الطبيعة حوله عما يعينه على ذلك، كأن يرى الشمس قد أشرقت، أو غير ذلك من الدلائل التي يستنتج منها في أي وقت هو.
وهكذا الحال مع الموت. فمهما طالت السنون منذ موت الإنسان، وإلى أن يبعث يوم القيامة، فإنه لا يشعر بمرورها إلا كما يحس النائم إذا أفاق. يقول تعالى: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ۚ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)﴾ [طه: 102 - 104]، ويقول أيضاً: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ ۖ فَهَٰذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَٰكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)﴾ [الروم: 55 - 56]
ويوم القيامة يجسد الله الموت كبشاً يذبح أمام الجميع، فإذا مات الموت نفسه، بقي الخلود المضمون من الله تعالى.
والمؤمن الذي يعلم أنه حتى موته ومهما طال الزمن بينه وبين القيامة، لن يكون إلا مثل ليلة يمضيها في نوم عميق، ثم بعدها حياة لا يغيب فيها عن الوجود، ولا حتى بالنوم، هذا المؤمن ترتاح نفسه من الرعب من العدم، وتطمئن إلى استمرار نعمة الوجود، ولها أن تتمتع بالسكينة والراحة التي تثمرها هذه المعرفة لحقيقة الخلود الإنساني الذي أراده الله، ولها أن تتمتع بالوجود ذاته، وتحمد الله عليه، ثم تجتهد فيه لتحقق درجة عالية في جنة الخلد.
تعليقات
لا توجد تعليقات بعد
تعليقك هنا