قدر حتى لو كان مصادفة
قدر حتى لو كان مصادفة
قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)﴾ [الفرقان: 1 - 2].
إن من الأسباب الهامة للقلق النفسي عند الإنسان ظنه أن المصائب تقع عليه بشكل عشوائي، وأنه لا يحميه منها إلا حذره واحتياطه، وهو مع ذلك يبقى قلقاً، لأنه مهما احتاط، فإنه لا يعرف من أين تأتيه المصائب أحياناً...
كما أنه لا غنى للإنسان، عن الكثير من الأعمال اليومية التي تنطوي على شيء من الخطورة حتى لو كان قليلاً، فالذي يخرج من بيته إلى عمله معرض لحوادث السير ولحوادث العمل وغيرها من المخاطر، والمرأة التي تطهو الطعام لأسرتها معرضة للحريق وغيره من المخاطر.
أما المؤمن، فيحميه إيمانه بقضاء الله وقدره من هذا النوع من القلق، إذ لا يكتمل الإيمان ما لم تكتمل أركانه كلها، ومنها الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى.
فكل ما يجري في الكون، حتى لو كان ناتجاً عن فعل القوانين الطبيعية المتفاعلة مع الصدفة، أو عن فعل كائنات لها بعض الحرية، وتساهم في إحداث ما يحدث في هذا الكون، إن ذلك كله يجري بقدر الله تعالى، الذي خلق القوانين الطبيعية، والذي منح الحرية والإرادة، والقدرة لبعض مخلوقاته، وهو يعلم كل شيء، ويعلم ما سيحدث في المستقبل، وهو قادر على كل شيء، وقادر على التدخل ومنع حدوث ما يريد له ألا يحدث، أو تغيير مسار الأحداث بالاتجاه الذي يشاؤه سبحانه وتعالى، أو أن يأذن بحدوث ما علم أنه سيحدث، دون أن يتدخل فيه.
وفي جميع الأحوال، لا يحدث في الكون شيء صغير أو كبير، إلا بعلمه وإذنه، أو بعلمه ومشيئته المتعمدة.
والإذن نوع من المشيئة، حتى لو لم يتدخل الرب في مسار الأحداث، بل كانت نتاج الصدفة، والعشوائية والاحتمالات، أو بفعل القوانين الطبيعية، أو بفعل إنسان عاقل يتمتع بقدر من الحرية والإرادة.
طالما أذن ربنا بحدوث أشياء معينة، وهو عالم بها قبل أن تحدث، وقادر على منع حدوثها، فإنها لم تقع إلا بقدره ومشيئته.
لقد ظن كثير من الناس، أن القدر يعني: أن الله يتدخل في كل صغيرة وكبيرة، ويسيّر الأمور بتعمد، ليحدث ما يريده هو، وكأن الله يجبر الأشياء والأشخاص على فعل ما يشاؤه ولو ضد إرادتهم، أو هو يجعل الأشياء تبدو وكأنها تحدث بقوانين طبيعية أو بالمصادفة، وبحسب قوانين الاحتمالات، أو بفعل الإنسان صاحب الإرادة الحرة. لكن ذلك كله مظهر خارجي، بينما الحقيقة: أن الله دفع الأشياء لتقع كما أراد لها. وهذا فهم خاطئ للقدر.
وقد جاء الاختلاط في فهم القدر، من عدم الانتباه إلى أن مشيئة الله نوعان:
الأول: مشيئة التعمد والقصد.
والثاني: مشيئة الإذن بوقوع الحدث، مع القدرة على منعه، والعلم المسبق به.
ليست إذاً الموافقة على الفعل، بل تركه يقع، والامتناع عن التدخل فيه، مع القدرة على ذلك والعلم أنه سيقع قبل أن يقع.
إذن العلم المسبق بما سيقع وتركه يقع أي الإذن بوقوعه هو نوع من المشيئة التي لا تتنافى مع حقيقة أننا نفعل ما نفعل في الحياة بإرادتنا الحرة التي وهبنا الله إياها، وأن ما يحدث في الطبيعة بمقتضى الصدفة والاحتمالات، وبحسب القوانين الطبيعية التي اكتشف العلم المعاصر الكثير منها، إنما هو قدر لله تعالى.
أي: نحن نريد، ونختار بحرية، والله عالم بما سنقدم عليه، وقادر على التدخل فيه، لكنه يتركه يقع، فنكون نحن المسؤولين عنه، والفاعلين له. ويكون الله هو الذي قدره، لأننا لم نفعل شيئاً إلا بقدره، وبالتالي يكون ما وقع وجرى على أيدينا فعل لله أيضاً. فهو قد استخدمنا، وبأيدينا جرت أقداره، وهو في الوقت ذاته لم يفرض وقوع شيء ضد إرادتنا وحريتنا، وبالتالي نحن مسؤولون عما فعلنا ولو كنا فعلناه بقدر الله.
أي: ما نفعله نحن البشر له فاعلان:
الأول: هو نحن الذين نفعل الشيء بحرية وإرادة، ونكون مسؤولين عنه.
والثاني: هو الله الذي علم من قبل ما سنفعل، وهو القادر على منعنا من فعله، لكنه لم يمنعنا، بل تركنا نفعله، ففعلناه بعلمه وإذنه، أي: بقدره. وكل ما يقع بقدره، إنما هو من فعله، دون أن يقلل ذلك من مسؤوليتنا عما فعلنا، ودون أن يقيد حريتنا فيما نفعل.
وكما يبدو لنا فإن الأصل أن الله يأذن للأحداث أن تقع، ولا يتدخل فيها، إلا في حالات محددة.
كل ما يقع في الوجود، يقع بقدره.. عن طاوس أنه قال أدركت ناسا من أصحاب رسول الله ﷺ يقولون كل شي بقدر قال وسمعت عبد الله بن عمر يقول قال رسول الله ﷺ: "كُلُّ شيءٍ بقَدَرٍ، حتَّى العَجْزِ وَالْكَيْسِ، أَوِ الكَيْسِ وَالْعَجْزِ" (رواه مسلم).
كل حركة لكل ذرة، أو ما هو أصغر منها، أو ما هو أكبر، وكل اهتزاز لورقة على شجرة، أو لجناح طائر، أو دورة لجهاز صنعه إنسان، أو فعل إرادي قام به كائن عاقل، كلها لا تقع إلا إن كان الله قدر وقوعها، وهذا لا يعني أن الله قد تعمد حدوث كل هذه الأشياء على كيفية معينة، إنما يعني أن الله علم بها من قبل، وقدر على منعها، لكنه أذن بحدوثها فحدثت، وبالتالي أصبحت من قدره، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 96] وعن حذيفة عن النبي ﷺ قال: "خَلَقَ اللهُ كُلَّ صانِعٍ وصنْعَتِهِ" (رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير أحمد بن عبدالله أبو الحسين بن الكردي وهو ثقة كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد).
أي: أن الله يخلق النجار، ويخلق السرير الذي صنعه النجار، دون أن نبخس النجار دوره ككائن ذي إرادة حرة، قام بصنع السرير بإرادته الحرة ومهارته وجهده، فهو صانع السرير، والله صانعه هو وسريره.
أي: إن للسرير صانِعَيْن، أو قل خالِقَيْن النجار ورب العالمين، الذي خلق النجار، وقدر الأقدار، فقطع النجار الأشجار، وصنع سريراً من أخشابها.
وهو خالقنا وخالق أعمالنا بالقدر لا بالتعمد لها إذ نحن الفاعلون لها نعملها بعلمه وإذنه سواء منها ما يحب من الخير أو ما يبغض من الشر، وكونه خالقنا وخالق ما نعمل لا يعفينا من المسؤولية عن أعمالنا لأنه خالق كل شيء يقع بقدره، ولا يقع في الوجود شيء إلا بقدره، ولا يلزم أن يتعمده حتى يقع بقدره، بل يعلمه قبل أن يقع ويأذن به -وهو الذي على كل شيء قدير- فيكون من قدره ومخلوقاً له.
ربنا يخلق كل شيء بقدر ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49].
والخلق: هو التقدير، كما يقول صاحب لسان العرب وليس الإيجاد من العدم كما يظن أكثرنا، والنجار لم يتعلم صنعته إلا بقدر الله، ولم يتحرك حركة إلا وهي من قدر الله، وبالتالي فإن ما ينتج عن عمله، إنما هو من صنع الله خالق كل شيء.
ويجب أن لا نتشنج وننزعج من القول: إن النجار خلق السرير، لأن الخلق من الناحية اللغوية، لا يعني إيجاد الشيء من العدم كما يظن كثيرون، بل هو الصنع والتقدير، وإعادة تشكيل ما هو موجود. مثلما خلق الله آدم من قبضة من طين لازب، حملها جبريل إليه من الأرض. وكما خلق عيسى من الطين طيوراً نفخ فيها، فكانت طيوراً حية، كباقي الطيور التي خلقها ربنا سبحانه وتعالى.
يقول تعالى على لسان عيسى عليه السلام، وهو يذكر بني إسرائيل بمعجزاته: ﴿وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 49]
فطيور عيسى لها خالقان، عيسى ورب العالمين. وكل ما نفعله، أو نصنعه له صانعان وفاعلان، نحن ورب العالمين، تبارك ربنا أحسن الخالقين، قال تعالى: ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 14]
ولنتأمل بعض ما جاء في لسان العرب حول مادة خلق، قال ابن منظور:
"خلق: الله تعالى وتقدَّس الخالِقُ والخَلاَّقُ، وفي التنزيل: هو الله الخالِق البارئ المصوِّر؛ وفيه: بلى وهو الخَلاَّق العَليم؛ وإِنما قُدّم أَوَّل وَهْلة لأَنه من أَسماء الله جل وعز. الأَزهري: ومن صفات الله تعالى الخالق والخلاَّق ولا تجوز هذه الصفة بالأَلف واللام لغير الله عز وجل، وهو الذي أَوجد الأَشياء جميعها بعد أَن لم تكن موجودة، وأَصل الخلق التقدير، فهو باعْتبار تقدير ما منه وجُودُها وبالاعتبار للإِيجادِ على وَفْقِ التقدير خالقٌ. والخَلْقُ في كلام العرب: ابتِداع الشيء على مِثال لم يُسبق إِليه: وكل شيء خلَقه الله فهو مُبْتَدِئه على غير مثال سُبق إِليه: أَلا له الخَلق والأَمر تبارك الله أَحسن الخالقين. قال أَبو بكر بن الأَنباري: الخلق في كلام العرب على وجهين: أَحدهما الإِنْشاء على مثال أَبْدعَه، والآخر التقدير؛ وقال في قوله تعالى: فتبارك الله أَحسنُ الخالقين، معناه أَحسن المُقدِّرين؛ وكذلك قوله تعالى: وتَخْلقُون إِفْكاً؛ أَي تُقدِّرون كذباً. وقوله تعالى: أَنِّي أَخْلُق لكم من الطين خَلْقه؛ تقديره، ولم يرد أَنه يُحدِث معدوماً. ابن سيده: خَلق الله الشيء يَخلُقه خلقاً أَحدثه بعد أَن لم يكن، والخَلْقُ يكون المصدر ويكون المَخْلُوقَ؛ وقوله عز وجل: يخلُقكم في بطون أُمهاتكم خَلْقاً من بعد خَلق في ظُلمات ثلاث؛ أَي يخلُقكم نُطَفاً ثم عَلَقاً ثم مُضَغاً ثم عِظاماً ثم يَكسُو العِظام لحماً ثم يُصوّر ويَنفُخ فيه الرُّوح، فذلك معنى خَلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث في البَطن والرَّحِم والمَشِيمةِ،......... والخِلْقةُ: الفِطْرة. أَبو زيد: إِنه لكريم الطَّبِيعة والخَلِيقةِ والسَّلِيقةِ بمعنى واحد …والخُلُق الخَلِيقة أَعني الطَّبِيعة. وفي التنزيل: وإِنك لَعلَى خُلُق عظيم، والجمع أَخْلاق، لا يُكسّر على غير ذلك. والخُلْق والخُلُق: السَّجِيّة.......... والخَلْق: التقدير؛ وخلَق الأَدِيمَ يَخْلُقه خَلْقاً: قدَّره لما يريد قبل القطع وقاسه ليقطع منه مَزادةً أَو قِربة أَو خُفّاً؛ قال زهير يمدح رجلاً: ولأَنتَ تَفْري ما خَلَقْتَ، وبعــضُ القومِ يَخْلُقُ، ثم لا يَفْري يقول: أَنت إِذا قدَّرت أَمراً قطعته وأَمضيتَه وغيرُك يُقدِّر ما لا يَقطعه لأَنه ليس بماضي العَزْم، وأَنتَ مَضّاء على ما عزمت عليه؛..... وفي حديث أُخت أُمَيَّةَ بن أَبي الصَّلْت قالت: فدخَلَ عليَّ وأَنا أَخلُقُ أَدِيماً أَي أُقَدِّره لأَقْطَعه. وقال الحجاج: ما خَلَقْتُ إِلاَّ فَرَيْتُ، ولا وَعَدْتُ إِلاَّ وَفَيْتُ...... والخَلْقُ: الكذب. وخلَق الكذبَ والإِفْكَ يخلُقه وتخَلَّقَه واخْتَلَقَه وافْتراه: ابتدَعه؛ ومنه قوله تعالى: وتخْلُقون إِفكاً. ويقال: هذه قصيدة مَخْلوقة أَي مَنْحولة إِلى غير قائلها؛ ومنه قوله تعالى: إِنْ هذا إِلا خَلْقُ الأَوَّلين، فمعناه كَذِبُ الأَولين، وخُلُق الأَوَّلين قيل: شِيمةُ الأَولين، وقيل: عادةُ الأَوَّلين؛ ومَن قرأَ خَلْق الأَوَّلين فمعناه افْتِراءُ الأَوَّلين؛ قال الفراء: من قرأَ خَلْقُ الأَوَّلين أَراد اختِلاقهم وكذبهم، ومن قرأَ خُلُق الأَولين، وهو أَحبُّ إِليَّ، الفراء: أَراد عادة الأَولين؛ قال: والعرب تقول حدَّثنا فلان بأَحاديث الخَلْق، وهي الخُرافات من الأَحاديث المُفْتَعَلةِ؛ وكذلك قوله: إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاق؛ وقيل في قوله تعالى إِن هذا إِلاَّ اختِلاق أَي تَخَرُّص. وفي حديث أَبي طالب: إِنْ هذا إِلا اختلاق أَي كذب، وهو افْتِعال من الخَلْق والإِبْداع كأَنَّ الكاذب تخلَّق قوله، وأَصل الخَلق التقدير قبل القطع. الليث: رجل خالِقٌ أَي صانع، وهُنَّ الخالقاتُ للنساء............ ".
الله يخلق ما يخلق بالقدر، فتكون كل بذرة حملتها الريح، فوقعت في التراب، وصادف التراب مطراً أنبتها، يكون خالقها وزارعها هو الله، لأنها زرعت بقدره، ونبتت بقدره، دون أن يشترط لهذا القدر أن يكون قدر تعمد، بل هو قدر العلم والقدرة والإذن.
إنه علم ما سيقع للبذرة المعينة، وقدر على تغيير مصيرها، لكن أذن لها أن تقع في التراب، وتنبت لتثمر وفق ما وضع فيها من برمجة مخزونة في الجينيات (المورثات).
العقيدة الصحيحة في القدر، ليست الاعتقاد أن الله وضع خطة لحياة فرد معين، فهي تسير وفق ما تعمده رب العالمين لهذا الشخص أو الشيء. إنما هي الإيمان أن كل شيء في الوجود، من أي نوع، وبأي سبب، وبأي مقدار، إنما يقع بقدر الله، لأن الله علم بوقوعه قبل أن يقع، ولو شاء له ألا يقع، لكان من المستحيل له أن يقع، وهو لا يقع إلاّ بإذن الله.
وهذا يعني أن الإيمان بوجود قوانين طبيعية، وطبائع للأشياء، تجعلها تتصرف بشكل محدد، ومحتم في المواقف المختلفة، كأن يتمدد الحديد كلما ارتفعت حرارته، ويتقلص كلما برد وهبطت حرارته، وكذلك الإيمان أن الكثير من الأشياء تقع بالمصادفة وفق قوانين الاحتمالات، والإيمان أن من الكائنات من هو حر، وله إرادة حرة حرية حقيقية، وتفعل ما تفعل بكامل حريتها، الإيمان بذلك كله، لا يناقض الإيمان بالقدر في العقيدة الإسلامية، لأن الله جعل للأشياء طبائع، وقوانين تحكمها ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ﴾ [طه: 50]. وتركها تتفاعل في الزمان والمكان، لينتج عنها ما يمكن أن ينتج، بحسب طبائعها، وبحسب القوانين الفيزيائية والكيميائية، وغير ذلك من قوانين طبيعية تحكمها، دون أن يعني ذلك أن ما يحدث لها خارج من دائرة قدر الله، بل كل شيء يقع إنما يقع بقدره، حتى لو لم يتدخل فيه، ولم يفرض عليه مساراً معيناً، بل تركه يقع بحسب إرادة حرة لكائن حي، أو بحسب قانون طبيعي، أو بحسب صدفة من الصدف.
نعم هنالك صدفة، وقوانين احتمالات، يمكننا بها أن نتوقع ما سينتج عن صدفة معينة، وهنالك قوانين ثابتة في الطبيعة، وطبائع للأشياء، تتحكم في نتيجة تفاعلها مع بعضها بعضاً. لكن رغم هذا كله، فإن كل شيء يقع من الأشياء أو الأشخاص أو يقع لهم، إنما هو قدر لله تعالى. كل شيء يحدث لأي شيء، وبفعل أي شيء، إنما هو قدر لله تعالى، فهو الذي لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ۖ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ ۖ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ: 3]، وهو الذي على كل شيء قدير، وهو الذي لا يقع شيء إلا بإذنه وعلمه، وبالتالي بقدره.
إن التفكير العلمي المعاصر، الذي نما عند الغربيين بعيداً عن الإيمان، لا يتعارض مع إيماننا بالقدر، كما بينه لنا ربنا ورسولنا، بل نبحث في الكون من حولنا كما يبحثون، ونحاول معرفة طبائع الأشياء، والقوانين الطبيعية التي تحكمها، لنتمكن من تسخيرها، ونحن نؤمن أن الله الذي خلق الأشياء، وجعلها بالخصائص والطبائع التي هي عليها، ما يزال مسيطراً عليها سيطرة علم وإحاطة بها كلها، فلا يعزب عن علمه شيء صغير أو كبير، ومسيطر عليها سيطرة قدرة وقهر وتحكم، فلا يقع فيها شيء على الإطلاق إلا بإذنه.
لكن حكمته اقتضت أن يأذن بوقوع كل ما نراه يقع، دون أن يعفينا من مسؤولية ما نقوم به، فنكون مستحقين للثواب والعقاب، لأن خالقنا لم يجبرنا ولم يكرهنا على شيء، وإن كان كل شيء فعلناه قدراً له، لأن كل شيء يقع من جماد أو حيوان أو إنسان أو ملاك، أو جان أو أي كائن أو مخلوق، لا يقع إلا أن يقدره الله.. وحتى يقدره الله، يكفي أن يعلم به، وهو بكل شيء عليم، وأن يأذن بوقوعه، مع قدرته على منع حدوثه، وهو على كل شيء قدير، وهذا ينطبق على كل شيء وقع أو سيقع في الوجود، وما وقع علمنا أنه هو قدر الله، أما ما لم يقع حتى الآن، فلا نتأكد أن الله قدره حتى يقع فنحن لا نعلم الغيب وإن كنا نجزم أن ما سيقع لن يقع إلا بقدر الله.
يختلف الإيمان بالقدر في الإسلام عن باقي الأديان، بوضوحه وشموله وعدم تناقضه مع الإيمان بالحرية والإرادة الإنسانية، أو الإيمان بالقوانين الطبيعية، ودور المصادفات العشوائية في حدوث ما يحدث، وفي تولد شيء من شيء.
فالمسلم الذي يؤمن أن القدر خيره وشره من الله تعالى، يستطيع أن يؤمن بحرية الإنسان، وبجبرية الأشياء وبالمصادفة، وغير ذلك من مكتشفات العلم المعاصر. وهكذا يجمع المسلم، بين عقيدته التي تنسب كل فعل للخالق سبحانه وتعالى، والاعتقاد بالقوانين، والنظريات العلمية التي تركز في بحثها على الفاعل المنظور، وتترك الحديث عن الفاعل الأكبر المقدر لكل ما يقع للدين والإيمان.
يستطيع المسلم المعاصر، بفضل عقيدة القدر الواضحة لديه، أن يكون مؤمناً عميق الإيمان، وعلمياً وعقلياً إلى أبعد الحدود في الوقت ذاته.
بقي أن لله سبحانه وتعالى طريقة ثانية يخلق بها الأشياء متجاوزاً فيها القوانين الطبيعية والصدفة وطبائع الأشياء، ولا يحتاج خلق الأشياء بواسطتها إلى أقدار، يقود أحدها إلى الآخر، حتى ينتج ما قدر الله خلقه. فالخلق يكون عادة بالقدر كما قال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49].
الطريقة الثانية: هي إيجاد ما يريد الله إيجاده وخلقه بالأمر وكلمة "كن" فيكون. فهو إن أراد شيئاً معيناً، لن تؤدي إليه الأحداث الطبيعية، يقول الله له "كن"، فيكون على الفور، لا يتأخر ولا حتى جزءاً من ثانية.
لذلك قال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)﴾ [القمر: 49 - 50].
وقال: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54]
وعلماؤنا قديماً، ظنوا أن المقصود هنا "الأمر الشرعي"، لكن تدبر الآيات المختلفة، يبين لنا بوضوح أن الأمر هو الوسيلة الثانية لإيجاد الموجودات بطريقة المعجزات التي لا تلتزم القوانين الطبيعية. ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: 69].. ومتى كانت النار برداً وسلاماً على كائن حي من لحم ودم؟
وبالأمر تتحول المادة غير المتشكلة إلى بنيان، تسري فيه الحياة، كما تحولت قبضة الطين التي سواها ربنا بيديه تمثالاً من صلصال كالفخار، ولما نفخ فيها من روحه، تحول الصلصال إلى خلايا متنوعة الأشكال، والوظائف، منتظمة في بنيان ليس هنالك أحسن منه، فكان إنساناً كامل الخلقة سوياً، جمع كل صفات الكمال البشري في أحسن تقويم.
لم تمر الذرات والجزيئات بمراحل وأطوار ما بين الطين اللازب الذي ترك حتى يجف، ثم بأمر الله، وكلمة "كن"، كان آدم جسداً حياً. كما لو كان قد حملت به أم في رحمها تسعة أشهر، بل كان أكمل خلقاً وأقوم.
وما يَبْرَؤُه الله بكلمة "كن"، يكون كلمة الله، لأنه جاء إلى الوجود بكلمة الله. كما كان عيسى ابن مريم، كلمة الله ألقاها إلى مريم، لأن الحيوان المنوي الذي لقح بييضة مريم، لم يتكون في خصية رجل، بل خلقه الله من التراب ابتداء بكلمة "كن"، فكان هذا الحيوان المنوي، الذي لا تراه إلا المجاهر شديدة التكبير، كان كلمة الله، التي تجسدت خلقاً لا يقل روعة عما يخلق ربنا بالقدر، بطريقة الخلق المألوفة لنا عبر الأسباب والمسببات وفق القوانين الطبيعية.
عيسى هو الحيوان المنوي المخلوق بكلمة الله، المتحد مع بييضة مريم المخلوقة بالقدر، ثم حملت به مريم، وتخلق في رحمها، كما يتخلق كل جنين بشري، حتى حانت ساعة ولادته، فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة،: ﴿فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾ [مريم: 23].
وكلمات الله أي: مخلوقاته التي أوجدها بالكلمة، هي غير كلماته التي حملت إلينا المعاني التي أوحاها وأرسلها إلى العباد لهدايتهم "كالقرآن الكريم". ففي القرآن كلمات الله، وفي الكون كلمات أخرى له، هي كل كائن، أو شيء، خلقه الله، وبرأه بقولة "كن".
ولعل أهم هذه الكلمات، التي لا تعد ولا تحصى، ملائكته الكرام، الذين لم تحمل بهم أنثى، وليس لهم آباء، إنما يخلقهم مولاهم بالأمر، وبقولة "كن"، فيكونون.
لقد اختلطت الأمور على كثيرين عندما تذكر الكلمة في كتاب مقدس سماوي، فقد يكون المقصود جبريل، وقد يكون المقصود غيره.
وفي القرآن الكريم، كان عيسى هو الكلمة التي ألقاها إلى مريم، أي: الحيوان المنوي المخلوق بكلمة الله، والذي نفخه الملك في رحم العذراء الطاهرة مريم، وبذلك نفهم كيف تُلْقى كلمة من كلمات الله إلى مريم ﴿...أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ...﴾ [الأعراف: 54]. الخلق وفق القوانين الطبيعية، وطبائع الأشياء، وبفعل الفاعلين، من مخلوقات الله ذات الإرادة.. والأمر، لا ينتظر تفاعلات الكيمياء، ولا تبدلات الفيزياء، بل يكون الانتقال من نوع من الوجود، إلى نوع آخر، بطريقة نعجز حتى عن فهمها وتخيلها.
احتار إبراهيم في كيفية إحياء الله للموتى، فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 260].. كان يريد أن يرى الكيفية ليهدأ باله، ويطمئن قلبه المعذب بحيرته، فأمره الله أن يذبح أربعة طيور، ويوزع لحومها على أربعة جبال، ثم يدعو الطيور إليه، فإذا هي حية مقبلة عليه.
ويبقى السؤال: هل رأى إبراهيم من الكيفية التي يحيي بها الله الموتى، ما يريح فؤاده من فضوله وتساؤلاته؟ قطع لحم مقطعة، اجتمعت، والتحمت، وعادت طيوراً، تخفق بأجنحتها.
إن ما يبرؤه الله بكلمته وأمره، يبقى فوق قدرتنا على الفهم، لأن عقولنا مبرمجة على أن لكل شيء سبباً، والأمر يتجاوز الأسباب.
وكما أن ما يبرؤه الله بكلمته، يصبح مخلوقاً من مخلوقات الله، مع أنه لم يخلق عبر الأقدار التي تخلق بها الأحياء، والأشياء الأخرى. لكن الخلق بالأمر والكلمة، نوع من الخلق، وهو أيضاً من قدر الله، لكن الكلمة التي تصفه وصفاً أدق أنه: قضاء الله.
القضاء من القدر... لكن القضاء -كما هو حكم القاضي الذي يقضي فيه على المختصمين لديه- هو حكم يأتي من فوق ومن أعلى. إنها الإرادة النافذة للخالق، عندما يتعمد أن يوجد شيئاً فيوجده بأمره، لا أنه ينتظره ليحدث بالأقدار التي يأذن بها وفق القوانين الطبيعية التي سنها لمخلوقاته.
وقد التبس القضاء في أذهان الكثير من الناس فظنوا القدر كله قضاء، وظنوا أن كل ما قدره الله إنما هو بتعمد منه، فوسعوا بذلك دائرة القضاء حتى شمل القدر كله، وصار من الصعب تصور القدر مع حرية الإنسان في العمل ومسؤوليته عن أعماله، القضاء هو ما تعمده الخالق من أقدار وهو جزء من القدر لا القدر كله.
عندما يتعمد ربنا شيئاً على نحو معين، فإنه يقضي أن يكون كذلك... تأمل قصة خلق الكون... لقد خلق الله الكون بكلمة "كن"، فكان الكون، وإن صحت نظرية الانفجار العظيم، فإن الكون كله ظهر إلى الوجود، في جزء صغير جداً جداً من الثانية، وانطلاقاً من كمية مكثفة من المادة ذات حجم صغير جداً...ربما كانت كذلك، وانفجرت تلك الكتلة، وتبعثرت أجزاؤها، كواكب، وشموس، وأقمار، وغبار كوني، وحجارة سابحة في الفضاء، إلى غير ذلك، وعلى الأغلب، كان ذلك أمراً عشوائياً، لا يبالي ربنا هل كانت شموسه أكثر أو أقل من عدد معين، لكنه متحكم بكل شيء، وكل ما تكون رغم العشوائية، إنما تكون بعلمه، وإذنه، أي: بقدره.
لكن المولى أراد السماوات أن يكن سبع سماوات لا أكثر ولا أقل، فقال: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۚ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [فصلت: 12]. قال فقضاهن سبع سماوات ولم يقل: فقدرهن سبع سماوات، مع أن قضاء الله، إنما هو بعض قدره، لكن عنصر القصد والتعمد الموجود فيه، يجعله قضاء وحكماً، لا مجرد علم وإذن، مع القدرة على التدخل، لكن دون ممارسة لهذه القدرة، كما هو حال أغلب الأقدار.
وهكذا عندما عصت بعض الأقوام، وفسقت عن أمر ربها، أخذها الله بقضائه، أي: بأمره. حيث كانت أدوات العقاب غير عادية، وغير متوقعة، من خلال الأقدار عادة، بل هو أمر من الله.
ولنتأمل هذه الآيات الكريمة:
- ﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: 40]
- ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [هود: 58]
- ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ۗ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ [هود: 66]
- ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ﴾ [هود: 82]
- ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ [هود: 94]
- ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۖ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ [المؤمنون: 27]
هو قضاء، وهو حكم، وهو أخذ ربك.
ومع أن الله على كل شيء قدير فإن كل ما أخبرنا أنه خلقه سواء بالقدر أو بالأمر خلقه من مادة أولية تم منها بناؤه وصنعه فالإنسان من تراب الأرض ومثله جميع الكائنات الحية من نبات وحيوان أما الملائكة فمن نور والجان من مارج من نار، وهذا التأكيد على المادة الأولية للخلق يتمشى مع المنطق العلمي وإن كنا نؤمن أن الله قادر على إيجاد الأشياء من العدم لأنه على كل شيء قدير لكنه أخبرنا أن كل مخلوقاته كانت من مادة أولية سبقتها في الوجود وبذلك يكون الخلق بشكليه الخلق بالقدر والخلق بالأمر شيئاً غير الإيجاد من العدم الذي لم يخبرنا ربنا عنه ومتى كان وكيف كان، بل أخبرنا عن خلقه الكائنات والأشياء من مادة أولية سبق له أن أوجدها ولا أعرف الكلمة الصحيحة المعبرة عن الإيجاد من العدم لأن الخلق غير الإيجاد من العدم كما رأينا. ولعل الباحثين يهتدون إليها لنعبر بها عن أمر سبق الخلق وهو إيجاد المادة التي منها تخلق المخلوقات.
ومما يؤكد اشتمال القضاء على الأمر تعبير القرآن الكريم عن الأمر بالقضاء كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: 23]، فالقضاء هنا أمر محض.
وقد يشكل على البعض أن الله قال: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 51] فيظنون أن ما كتبه الله لنا إنما كتبه تعمداً وقضاء وهذا غير صحيح فربنا قال: ما كتب الله لنا ولم يقل علينا ولعل ذلك ليبعد شبهة الإجبار في الأقدار، لأن الكتابة علينا قد تأتي بمعنى الفرض علينا كما كتب علينا الصيام والقتال، لكن كتابة ما يصيبنا من خير وشر هي مجرد كتابة مثل الكتابة بالقلم لما علم الله أنه سيأذن بوقوعه من الأقدار، لا كتابة الفرض والقضاء إلا في بعض الأمور كالأجل وما شابه مما يأمر به الله أمر تعمد، ويتبين لنا هذا المعنى واضحاً في قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد: 22].
تعليقات
تعليقك هنا