أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك
أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك
إن القلق النفسي متعلق دائماً بالمستقبل، فالإنسان لا يقلق على ما فات، بل قد يحزن ويكتئب.... إنما قلقه يكون دائماً على ما سيأتي.
وكثيراً ما يعتزم الإنسان فعل أمر هام، ويكون أمامه الخيار أن يفعله أو أن لا يفعله، أو يكون أمامه الخيار أن يفعل أحد أمرين، أو واحداً من أمور كثيرة، في كل أمر منها إيجابيات وسلبيات، فإن فعل أحدها فاته ما في الآخر من خير، أو إن فعل أمرأً معيناً تحققت له المنفعة، وبالمقابل تعرض لخسارة شيء يحبه، عندها يحتار أي الأمرين يختار، فهو يخاف أن يختار لنفسه الشيء الذي لا خير فيه، وأن يفوت باختياره هذا على نفسه خيراً كثيراً، فيقع في صراع نفسي وحيرة، يسميه علماء النفس: صراع الإقدام والإحجام، أي: الإقدام على فعل معين أو الإحجام عنه، وهذا الصراع النفسي يولد في نفس الإنسان قلقاً نفسياً، يشتد كلما اشتد الصراع، وتعاظمت الحيرة.
وهذا القلق من النوع المزعج للنفس، يجعل الإنسان في هم دائم وفكر مستمر، ويحرمه النوم والاستقرار.
وحتى لا نقع في مثل هذا القلق النفسي، أو حتى نعالجه إن وقعنا فيه، علمنا رسولنا محمد ﷺ أن نستخير الله في أمورنا، أي: أن نسأله الخير فيها، وأن يختار لنا ما فيه خيرنا دنيا وآخرة، وتتم استخارة رب العالمين بأن نصلي ركعتين لله تعالى، وبعد الانتهاء منهما والتسليم ندعو بدعاء الاستخارة.
وليس جواب الاستخارة رؤيا أو مناماً، إنما هو هذا الإحساس القلبي الذي يأتي بعدها.
أما دعاء الاستخارة فهو: "اللَّهمَّ إنِّي أستخيرُك بعلمِك، وأستقدرُك بقدرتِك، وأسألُك من فضلِك العظيمِ، فإنَّك تقدرُ ولا أقدرُ، وتعلمُ ولا أعلمُ، وأنت علَّامُ الغيوبِ. اللَّهمَّ إن كنتَ تعلمُ هذا الأمرَ (وتُسمّيه باسمِه) خيرًا لي في ديني، ومعاشي، وعاقبةِ أمري، فاقْدِرْهُ ويسِّرْه لي، ثمَّ بارِكْ لي فيه، اللَّهمَّ وإن كنتَ تعلمُه شرًّا لي في ديني، ومعاشي، وعاقبةِ أمري، فاصرِفْني عنه، واصرِفْهُ عنّي، واقدِرْ لي الخيرَ حيث كان، ثمَّ رضِّني به" (رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي).
وقد شجعنا النبي محمد ﷺ على أن نكرر هذه الاستخارة سبع مرات، وقد لا يستغرق ذلك أكثر من نصف ساعة من الصلاة والدعاء، ثم ننظر إلى إحساسنا القلبي بخصوص ما كنا نهم أن نفعله، فإما أن نرتاح إلى همنا هذا، وينشرح صدرنا لفعله، فنعزم عليه، ونتوكل على الله، أو أن نفقد حماستنا له، وتقل رغبتنا فيه، أو حتى نشعر بالنفور من فعله.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: قال النبي محمد ﷺ: "يا أنسُ إذا هممتَ بأمرٍ فاستخِرْ رَبَّكَ فيهِ سبعَ مراتٍ ثم انظرْ إلى الذي يسبقُ إلى قلبِكَ فإنَّ الخيرَ فيهِ" (رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة الجزء الأول الصفحة 551).
ورغم ما قيل عن ضعف سند هذا الحديث فإن التجربة الشخصية لتكرار الاستخارة سبع مرات متتاليات أثبتت مقدار الراحة النفسية من القلق والحيرة بخصوص ما استخير الله له، ولم استخر الله لأمر سبع مرات وندمت على ما ألهمني الله فعله بعد الاستخارة، لذا أرى في الاستخارة سبع مرات علاجاً نفسياً للقلق الناتج عن الحيرة بخصوص أمر هام لا يماثله علاج.
إن هذا القلق النفسي المتولد عن صراع الإقدام، أو الإحجام عن فعل يبدو للإنسان في فعله فوائد ومضار، وفي تركه فوائد ومضار، ويعجز الإنسان عن ترجيح إحدى الكفتين، لأنه يجهل الغيب، كما هو حال البشر جميعاً.
هذا القلق المزعج، كثيراً ما يكون صعب العلاج بالطرق العلاجية المعروفة في الطب النفسي، فحرص الإنسان على الخير، وخوفه من اتخاذ قرار خاطئ، يتسبب في ضرره، أو حرمانه من الخير… هذا الحرص، وهذا الخوف، أمران طبيعيان تماماً، والجهل بالغيب شيء لا يستطيع المعالج النفسي أن يتغلب عليه، لذا كان من الخطأ أن يقوم المعالج بترجيح إحدى الكفتين، وبتوجيه الإنسان القلق إلى قرار معين، قد يتبين خطؤه فيما بعد، فيكون المعالج مستحقاً للّوم.
كما أن قيام المعالج بالاختيار نيابة عن المريض يتنافى مع هدف العلاج النفسي الأكبر، وهو مساعدة المريض على مزيد من النضج والاستقلالية وتحمل المسؤولية. لذا لم يكن هنالك خير من إحالة الإنسان القلق إلى علام الغيوب يستخيره، ويلتمس الهداية والتسديد لديه، فيستنير بنور الإيمان، حتى في أمور دنياه.
تعليقات
لا توجد تعليقات بعد
تعليقك هنا