المقالات
ولا أبالي
Whatsapp
Facebook Share

 

ولا أبالي

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

قال رسول الله ﷺ: "إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ خلق آدمَ، ثمَّ أخذ الخَلقَ من ظهرِه، وقال : هؤلاء إلى الجنَّةِ ولا أُبالي، وهؤلاء إلى النَّارِ ولا أُبالي، فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ فعلى ماذا نعمَلُ؟ قال: على مواقعِ القدَرِ" قال الألباني في "السلسلة الصحيحة": رواه أحمد وابن سعد في "الطبقات"، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم وقال الحاكم: "صحيح" ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.

 

وقد مرض رجل من أصحاب رسول الله ﷺ، فدخل عليه أصحابه يعودونه، فبكى، فقيل له: ما يبكيك يا عبد الله؟ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إنَّ اللهَ تبارك وتعالَى قبض قبضةً بيمينِه فقال: هذه لهذه ولا أُبالي، وقبض قبضةً أخرى، يعني: بيده الأُخرى، فقال: هذه لهذه ولا أُبالي" فلا أدري في أي القبضتين أنا". قال الألباني في "السلسلة الصحيحة": رواه أحمد وإسناده صحيح.

 

صحابي كريم يصيبه القلق خشية أن يكون في القبضة التي إلى النار.. وكثير من المؤمنين يصيبهم القلق عندما يسمعون قوله ﷺ: "سَدِّدُوا وقارِبُوا وأَبْشِرُوا، فإنَّه لا يُدْخِلُ أحَدًا الجَنَّةَ عَمَلُهُ قالوا: ولا أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بمَغْفِرَةٍ ورَحْمَةٍ" رواه البخاري في صحيحه.

 

وقال ﷺ: "لَنْ يُنَجِّيَ أحَدًا مِنكُم عَمَلُهُ قالوا: ولا أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ولا أنا، إلَّا أنْيَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ برَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وقارِبُوا، واغْدُوا ورُوحُوا، وشيءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، والقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا" رواه البخاري في صحيحه.

 

المؤمن قد يتسرب القلق إلى نفسه عند سماعه لهذه الأحاديث إن ظن أن الله يقبض قبضة عشوائية من البشر ليدخلهم الجنة أو النار أو إن ظن أن رحمة الله يوم القيامة من نصيب البعض دون غيرهم من المؤمنين، أو ظن أن العمل لا وزن له وأن دخول الجنة الذي يكون برحمة الله لا يؤخذ عمل المؤمن فيه بالحسبان. إن الاطلاع على بعض النصوص دون باقي النصوص قد يؤدي إلى إساءة الفهم وإلى القلق والخوف.

 

ولنتأمل هذا الحديث:

عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: "خرج علينا رسول الله ﷺ فقال: خَرَج مِن عِندي خَليلي جِبريلُ آنِفًا، فقال: يا مُحمَّدُ، والَّذي بَعَثك بِالحقِّ، إنَّللهِ عَبدًا مِن عَبيدِه عَبَد اللهَ خَمْسَ مِئةِ سَنةٍ على رَأسِ جَبَلٍ في البَحرِ، عَرضُه وطولُه ثَلاثونَ ذِراعًا في ثَلاثينَ ذِراعًا، والبَحرُ مُحيطٌ بِه أربعةَ آلافِ فَرْسَخٍ مِن كلِّ ناحيةٍ، وأَخرَجَ اللهُ تَعالى له عَينًا عَذْبةً بِعَرضِ الإصبَعِ تَبُضُّ بِماءٍ عَذْبٍ، فتَستَنقِعُ في أَسفَلِ الجَبلِ، وشَجرةَ رُمَّانٍ تُخرِجُ له كلَّ لَيلةٍ رُمَّانةً فتُغذِّيه يَومَه، فإذا أَمسى نزَل فأَصابَ منَ الوَضوءِ، وأَخذَ تلكَ الرُّمَّانةَ فأَكَلَها، ثُمَّ قامَ لِصَلاتِه، فسألَ ربَّه عزَّ وجلَّ عندَ وقْتِ الأَجلِ أنْ يَقبِضَه ساجِدًا، وأنْ لا يَجعَلَ لِلأرضِ ولا لِشيءٍ يُفسِدُه عليهِ سَبيلًا حتَّى يَبعَثَه وهوَ ساجِدٌ. قال: فَفعَلَ، فنَحنُ نَمُرُّ عليه إذا هَبَطْنا وَإذا عَرَجْنا، فنَجِدُ له في العِلمِ أنَّه يُبعَثُ يومَ القيامَةِ، فيُوقَفُ بَينَ يَدَيِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فيَقولُ له الرَّبُّ: أَدخِلوا عَبدِيَ الجنَّةَ بِرَحمَتي، فيَقولُ: بل بِعَمَلي! فيَقولُ الرَّبُّ: أَدخِلوا عَبديَ الجنَّةَ بِرَحمَتي، فيَقولُ: يا ربِّ بَل بِعَملي! فيَقولُ الرَّبُّ: أَدخِلوا عَبْدي بِرَحمَتي، فيَقولُ: رَبِّ بِعَملي! فيَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ للمَلائكَةِ: قايِسُوا عَبْدي بنِعمَتي عليهِ وبِعَمَلِه، فتوجَدُ نِعمةُ البَصرِ قد أحاطَتْ بِعِبادةِ خَمسِ مِئةِ سنةٍ وبَقيَتْ نِعمةُ الجَسدِ فَضلًا عَليهِ، فيَقولُ: أَدخِلوا عَبْدِيَ النَّارَ، قال: فيُجَرُّ إلى النَّارِ، فيُنادي: رَبِّ، بِرَحمتِك أَدخِلني الجنَّةَ، فيَقولُ: رُدُّوه، فيُوقَفُ بينَ يَديْه، فيَقولُ: ياعَبدي، مَن خَلَقَك ولَم تَكُ شيئًا؟ فيَقولُ: أنتَ يا ربِّ، فيَقولُ: كان ذَلك مِنقِبَلِك أو بِرَحمَتي؟ فيَقولُ: بَل بِرَحمتِك، فيَقولُ: مَن قوَّاك لِعِبادةِ خَمسِ مِئةِ عامٍ؟ فيَقولُ: أنت يا ربِّ، فيَقولُ: مَن أَنزَلك في جَبلٍ وَسَطَ اللُّجَّةِ وأَخرَج لكَ الماءَ العذْبَ مِنَ الماءِ المالحِ، وأَخرَج لكَ كلَّ لَيلةٍ رُمَّانةً وإنَّما تَخرُجُ مَرَّةً في السَّنةِ، وسَألْتَني أنْ أقبِضَك ساجِدًا، ففَعَلتُ ذلكَ بكَ؟ فيَقولُ: أنتَ يا ربِّ، فَقال اللهُ عزَّ وجلَّ: فذلكَ بِرَحمَتي، وبِرَحمَتي أُدخِلُك الجنَّةَ، أَدْخِلوا عَبدِيَ الجنَّةَ، فنِعمَ العَبدُ كُنتَ يا عَبدي! فيُدخِلُه اللهُ الجنَّةَ، قال جِبريلُ عليهِ السَّلامُ: إنَّما الأَشياءُ بِرَحمةِ اللهِ تَعالى يا مُحمَّدُ" رواه الحاكم في مستدركه وقال: هذا حديث صحيح الإسناد.

 

هذا الحديث الشريف يوضح لنا بجلاء كيف أن عمل المؤمن لا ينجيه ما لم يتغمده الله برحمته فيسقط عنه ما له عليه من شكر النعم التي آتاه الله إياها في الدنيا، وعندما يعفيه من هذا الشكر المستحق له على المؤمن يبقى عمله الصالح زيادة تحتسب له وتوازن أي عمل غير صالح ارتكبه فإذا رجحت حسناته دخل الجنة برحمة الله وبعمله، إذ لو رجحت سيئاته لاستحق النار، وبذلك يكون عمله الصالح هو الذي أنجاه من العذاب لكن بعد رحمة الله له التي تجلت في إسقاط كل الديون المستحقة عليه مقابل النعم التي متعه الله بها في الدنيا وكان يراها أمراً مفروغاً منه وكأنها لا تستوجب شكراً ولا حمداً. والحديث يبين لنا أن رحمة الله هي لكل مؤمن إلا من يرفضها ويصر على دخول الجنة بعمله وحده اغتراراً بعمله وظناً منه أن عمله كان كافياً وأنه قد عمل الذي عليه تجاه خالقه العظيم. إن نعم الله علينا لا يوفيها شكرها ما نتمكن من عمله من الصالحات في عمرنا القصير وجهدنا القليل، قال تعالى:﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) [عبس: 17 - 23]. إذن مهما عملنا من الصالحات فسنبقى مقصرين في حق مولانا ولا نستغني عن رحمته التي لولاها لن يكفينا عملنا للنجاة من النار، كما لا غنى لنا عن العمل الصالح الذي ما لم يرجح ويغلب معاصينا فلن نستحق الجنة.. إنها أعمالنا الصالحة هي التي تنجينا إن تغمدنا الله برحمته وأعفانا مما له علينا من شكر مستحق على نعمه علينا في الدنيا، وبذلك ندخل الجنة برحمة الله وبعملنا الصالح مجتمعين، لأنه بدون رحمة الله لن ينفعنا عملنا وبدون عمل صالح يرجح ذنوبنا ومعاصينا قد نكون من أهل النار والعياذ بالله.

 

ولنتأمل هذه الآيات الكريمة التي تبين أهمية العمل الصالح للنجاة يوم القيامة ودخول الجنة:

  • ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)﴾ [النساء: 123 - 124]

  • ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ۖ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 127]

  • ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ۖ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ۖ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 43]

  • ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: 32]

  • ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ [الأنبياء: 94]

  • ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [العنكبوت: 7]

  • ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 17]

  • ﴿أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَىٰ نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 19]

  • ﴿فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [يس: 54]

  • ﴿وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الصافات: 39]

  • ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر: 70]

  • ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر: 74]

  • ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر: 40]

  • ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: 72]

  • ﴿أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف: 14]

  • ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ۖ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف: 16]

  • ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ۖ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الأحقاف: 19]

  • ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور: 19]

  • ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ۚ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: 21]

  • ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم: 31]

  • ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَىٰ سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)﴾ [الواقعة: 10 - 24]

  • ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [المرسلات: 43]

  • ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [الانشقاق: 25]

  • ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) [الزلزلة: 7 - 8]

 

وبعد أن يرحم الله عباده ويسقط عنهم ما له عليهم من شكر على نعمه عليهم التي لا تعد ولا تحصى، توضع أعمالهم في الميزان، ويدخل الجنة كل من زادت حسناته على سيئاته من المؤمنين الذين لم يكن في إيمانهم أي شرك، أما من أشرك مع الله إلهاً آخر فلا يقبل منه أي عمل صالح مهما عظم ولا بد له من دخول النار. قال تعالى:

  • ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر: 65]

  • ﴿ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 88]

  • ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا [النساء: 48]

  • ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء: 116]

  • ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۖ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۖ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة: 72]

 

والله لا يقبل عملاً صالحاً إلا من مؤمن، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ۚ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 147]

 

وهكذا يدخل النار كل مشرك وكل ملحد منكر للخالق واليوم الآخر ولا ينجو منها إلا من آمن بالله واليوم الآخر إيماناً لا شرك فيه وعمل من الصالحات ما يدخله الجنة، قال تعالى:

  • ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء: 124]

  • ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97]

  • ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء: 19]

  • ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر: 40]

 

ويبقى المؤمنون الذين تعادلت حسناتهم وسيئاتهم والأمل بالله أن يرحمهم ويدخلهم الجنة دون عذاب.

أما المؤمنون الذين زادت سيئاتهم على حسناتهم فيدخلون النار ما لم يغفر الله لهم وأشد الخطر يكون على من كان للناس عليه حقوق، حيث أكل مال هذا، وضرب هذا، واغتاب هذا، وغير ذلك من أشكال العدوان على الناس، أو الغلول وأكل مال الأمة دون حق، فيكون عليه يوم القيامة أن يعيد الحقوق إلى أصحابها -يوم لا درهم ولا دينار- فيؤخذ من حسناته حتى إذا نفدت طرح عليه من سيئاتهم فيفلس ويدخل النار، والله قد يغفر ما له على العبد الذي مات لا يشرك بالله شيئاً، لكن الناس يريدون حقوقهم ولن يتنازلوا عنها وهم في أمس الحاجة إليها، وهكذا يمكن لمن مات موحداً لله أن يستحق النار ويدخلها حتى لو غفر الله له ما ارتكب من معاص لم يعتد فيها على أحد من الناس.

 

وهنا تأتي شفاعة محمد ﷺ لتنقذ هؤلاء الذين أهلكتهم ذنوبهم وتخرجهم من النار على دفعات، حتى لا يترك محمد ﷺ في النار مؤمناً إيماناً صحيحاً لا شرك فيه ولو كان إيمانه هذا لا يعادل إلا ذرة طالما هو إيمان خالص من الشرك بالله. وعذاب المؤمنين أصحاب الكبائر وشفاعة محمد ﷺ لهم وخروجهم من النار كل ذلك يتم خلال يوم القيامة وقبل انقضائه ولكن ذلك لا يعني أنهم سيعذبون ساعات قليلة لأن يوم القيامة ليس كأيامنا في الدنيا بل هو يعدل خمسين ألف سنة، قال تعالى عنه: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج: 4]. لذا لا يستهينن أحد بهذا العذاب فقد يمتد عشرات الآلاف من السنين ويبقى في يوم القيامة.

 

قال ﷺ: "شفَاعَتِي لِأَهْلِ الكبائرِ من أُمَّتِي" رواه أبو داود وابن ماجة والبيهقي والترمذي والحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط الشيخين.

 

وبعد أن يشفع محمد ﷺ لكل من كان في قلبه ذرة من إيمان مقبول عند الله لخلوه من الشرك وقبل انقضاء يوم القيامة، يقبض ربنا قبضة من أهل النار الذين لم يقبل منهم أي عمل صالح لأنهم أشركوا مع الله غيره، فيخرجهم من النار ويلقيهم في نهر في أفواه الجنة لتتعافى أجسادهم من آثار العذاب الذي كانوا فيه، ثم يدخلهم الجنة برحمته.. ويبقى في النار كل معاند جاحد محارب لله ورسله والمؤمنين.

 

ولا يظنن أحد أن قبضة الله هذه عشوائية لأنه حكيم ولا بد أن هذه القبضة تنتقي خيار أهل النار الذين استحقوها لوقوعهم في الشرك ضلالاً وحمقاً، فالشرك يهلك صاحبه مهما حسنت نواياه لأن الله قضى أن من يشرك به يدخل النار ولا تشمله شفاعة محمد ﷺ أبداً وهو جل جلاله لا يبالي من سيدخل النار بموجب قضائه هذا.

 

ومع أن الله سيشفع للطيبين من أهل النار الذين لم تشملهم شفاعة النبي ﷺ قبل انقضاء يوم القيامة فإن ذلك لا يعني أن مدة عذابهم ستكون مقاربة لمدة عذاب المؤمنين أصحاب الكبائر فقد يكون الفرق بين شفاعة محمد ﷺ للمؤمنين من أهل النار وشفاعة الله لمن يشاء ممن بقي فيها آلاف أو عشرات الآلاف من السنين إضافة لكون شدة العذاب في النار درجات متفاوتة. نسأل الله أن ينجينا منها. وأغلب ظني أن الله يشفع لمن شاء من أهل النار قرب نهاية يوم القيامة أي بعد ما يقرب من خمسين ألف سنة من العذاب، ومع انقضاء يوم القيامة الذي امتد خمسين ألف سنة لا يبقى أي أمل لمن في النار في الخروج منها ويكون جميع أهل الجنة قد استقروا فيها.

 

ولنتأمل هذه الأحاديث الشريفة التي منها تعلمنا ما قلناه:

روى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا، فيأتون آدم فيقولون: أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا عند ربنا. فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته، ويقول: ائتوا نوحاً، أول رسول بعثه الله، فيأتونه فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته، ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلاً، فيأتونه فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته، ائتوا موسى الذي كلمه الله، فيأتونه فيقول: لست هناكم، فيذكر خطيئته، ائتوا عيسى فيأتونه فيقول: لست هناكم، ائتوا محمداً ﷺ، فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأستأذن على ربي، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله، ثم يقال لي: ارفع رأسك: سل تُعطه، وقل يُسمع، واشفع تُشَفَّع، فأرفع رأسي، فأحمد ربي بتحميد يعلمني، ثم أشفع فيحد لي حداً، ثم أخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة، ثم أعود فأقع ساجداً مثله في الثالثة، أو الرابعة، حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن". وكان قتادة يقول عند هذا: أي وجب عليه الخلود.

 

وروى البخاري أيضاً في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك، فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا، فيأتون آدم فيقولون: أنت آدم أبو الناس خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء، لتشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، قال: فيقول: لست هناكم، قال: ويذكر خطيئته التي أصاب، أكله من الشجرة وقد نهي عنها، ولكن ائتوا نوحا أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض.. فيأتون نوحا فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب، سؤاله ربه بغير علم، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن.. قال: فيأتون إبراهيم فيقول: إني لست هناكم، ويذكر ثلاث كلمات كذبهن، ولكن ائتوا موسى عبدا آتاه الله التوراة وكلمه وقربه نجيا.. قال: فيأتون موسى فيقول: إني لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب، قتله النفس، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وروح الله وكلمته.. قال: فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمدا ﷺ عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.. فيأتوني.. فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني فيقول: ارفع محمد وقل يسمع واشفع تشفع وسل تعط.. قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، فيحد لي حدا فأخرج فأدخلهم الجنة قال قتادة وسمعته أيضا يقول فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول: ارفع محمد وقل يسمع واشفع تشفع وسل تعط.. قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه.. قال: ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرج فأدخلهم الجنة.. قال: قتادة وسمعته يقول فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ثم أعود الثالثة فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت له ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول: ارفع محمد وقل يسمع واشفع تشفع وسل تعطه، قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، قال: ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرج فأدخلهم الجنة، قال: قتادة وقد سمعته يقول فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود.. قال: ثم تلا هذه الآية: "عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا".. قال: وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم ﷺ".

 

وروى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: "قلنا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: (هل تضارُّون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً). قلنا: لا، قال: (فإنكم لا تضارُّون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارُّون في رؤيتهما). ثم قال: (ينادي مناد: ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم، حتى يبقى من كان يعبد الله، من بر أو فاجر، وغُبَّرات من أهل الكتاب، ثم يؤتى بجهنم تُعرض كأنها سراب، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم. ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون، حتى يبقى من كان يعبد الله، من بر أو فاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منَّا إليه اليوم، وإنا سمعنا مناديا ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر ربنا، قال: فيأتيهم الجبَّار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه، فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً، ثم يؤتى بالجسر فيُجعل بين ظهري جهنم). قلنا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: (مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ، عليه خطاطيف وكلاليب، وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفة، تكون بنجد، يقال لها: السعدان، المؤمن عليها كالطرف وكالبرق وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلَّم وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يسحب سحباً، فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم مِنَ المؤمن يومئذ للجبار، وإذا رأوا أنهم قد نجوا، في إخوانهم، يقولون: ربنا إخواننا، كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرِّم الله صورهم على النار، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيُخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيُخرجون من عرفوا ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيُخرجون من عرفوا). قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني فاقرؤوا:﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا. (فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار، فيخرج أقواماً قد امتُحِشوا، فيلقون في نهر بأفواه الجنة يقال له: ماء الحياة، فينبتون في حافتيه كما تنبت الحِبَّة في حميل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة، إلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ، فيجعل في رقابهم الخواتيم، فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه، فيقال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه)".

 

وقال ﷺ: "يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي مناد: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه. ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح. ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. ثم قرأ: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾". رواه البخاري ومسلم وهذه رواية البخاري.

 

إن فهم الدين فهماً جيداً يريح النفس من أي قلق يسببه الفهم الناقص.. ولو فهم المؤمن قول النبي ﷺ إن ما كتبه الله بعلمه المسبق اليقيني من أن فلاناً من الناس سيكون من أهل النار حتى لو عمل من الصالحات الكثير، لو فهم ذلك دون أخذ باقي حقائق الإيمان في الاعتبار لظن أن الله يكره بعض الناس على فعل ما يوجب لهم النار كي يتحقق ما كتبه من قبل أنهم من أهل النار، وهذا مستحيل أن يقع من الرحمن الذي حرم الظلم على نفسه وجعله بيننا محرماً، قال رسول الله ﷺ: "إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربعة: برزقه وأجله، وشقي أو سعيد، فوالله إن أحدكم -أو: الرجل- يعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها". قال آدم: (إلا ذراع). رواه البخاري ومسلم.

 

وقال ﷺ: "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار. وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار، فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة" رواه مسلم.

 

وروى مسلم في صحيحه عن رسول الله ﷺ أنه قال: "ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة، إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار. وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة" قال فقال رجل: يا رسول الله! أفلا نمكث على كتابنا، وندع العمل؟ فقال "من كان من أهل السعادة، فسيصير إلى عمل أهل السعادة. ومن كان من أهل الشقاوة، فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة" فقال "اعملوا فكل ميسر. أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة. وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة". ثم قرأ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ (10)﴾ [الليل: 5 - 10].

 

وقال رسول الله ﷺ: "إن الله عز وجل خلق آدم، ثم أخذ الخلق من ظهره وقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي، فقال قائل: يا رسول الله فعلى ماذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر". قال الألباني في "السلسلة الصحيحة": رواه أحمد وابن سعد في "الطبقات"، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم وقال الحاكم: "صحيح" ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.

 

إذن هي كتابة علم مسبق يقيني لا كتابة إكراه وإجبار، ويبقى الإنسان هو من يختار أي طريق سيسلك إلى الله: طريق الهدى والرشاد أو طريق الضلال والعصيان، والله ييسره لما اختار ولا يجبره على شيء. والله علم منذ خلق آدم من ذريته سيدخل الجنة برحمة الله وعمله الصالح ومن منهم سيدخل النار بعمله الطالح وعدل رب العالمين فعبر الحديث عن ذلك بأنها قبضة قبضها ربنا وقال إلى الجنة وقبضة قبضها وقال إلى النار، أي يدخل أهل الجنة الجنةَ بقدر الله ويدخل أهل النار النارَ بقدره أيضاً دون أن يعني ذلك أي إكراه لمخلوق على شيء، فالله علم ما سيفعله الناس من خير وشر وتركهم يفعلونه وهو القادر على منعهم لو شاء وبذلك يكون عملهم للخير وللشر بقدر الله وباختيارهم الحر الذي يستحقون عليه الجزاء خيراً على الخير وعذاباً على الشر. والمخيف في الأمر قوله تعالى "ولا أبالي" حيث سيعاقب الله كل من أشرك به أو جحده طالما كانت آياته كافية لغيرهم الذين استجابوا لله فآمنوا به وأطاعوه. ويحاسب كل من عصاه وتحتسب المعصية على مرتكبها مهما بدت صغيرة أو غير مهمة لمن وقع فيها وليس هنالك محاباة لأحد إلا جزاء له على عمل صالح أحبه الله من أجله، لذا على المؤمن الحذر وأن لا يستهين بالمعاصي فهي تسجل عليه وسيسأل عنها يوم القيامة ومعرض لأن يعاقب عليها، فالملائكة يكتبون كل عمل نعمله ولا يهمهم ما إن كنا نرى ما نقع فيه من معصية شيئاً سيئاً حقاً يستوجب التحريم أو لا نرى ذلك، إذ طالما حرمه الله فنحن متعبدون باجتنابه وعدم الوقوع فيه. لقد وضع ربنا المعايير للعمل الصالح والعمل الطالح، لذا قد نستغرب عظم الأجر على عمل بسيط صالح وعظم الوعيد على عمل طالح لا نلق له بالاً، وربنا لا يبالي من سيكون الفائز برضاه وجنته ومن سيستحق ناره وعذابه، وهذا مدعاة لنا لأخذ الأمر بجدية لأنه في الحقيقة جد لا هزل فيه.

 

وقد روى مسلم في صحيحه أن الرسول ﷺ قال لعائشة رصي الله عنها ذات مرة: وسلم "أو لا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق النار. فخلق لهذه أهلا، ولهذه أهلا". وفي رواية ثانية لمسلم يقول ﷺ: "...، يا عائشة! إن الله خلق للجنة أهلا. خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم. وخلق للنار أهلا. خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم". ولا يعني ذلك أن الله خلق النار ثم خلق لها أناس مفطورين على الكفر كي يكونوا أهلها بل هم أناس يخلقهم الله بقدره ويختارون طريق النار وأهلها، ولا يتعمد خلقهم بالذات كي يملأ النار بهم. فالله خلق آدم بيده وكان لا بد أن يكون المخلوق هو آدم بالذات وكذلك حواء التي كانت نسخة مؤنثة من آدم خلقها الله من ضلع آدم وما كان لأنثى غيرها أن تكون المخلوقة، لكن ذرية آدم يخلقها الله بقدره حيث يلتقي حيوان منوي من رجل ببييضة من امرأة وتتكون نطفة أمشاج يكون منها رجل أو امرأة جديدان، وإن لقح هذه البييضة حيوان منوي آخر من الأب نفسه يكون المتكون شخصاً آخر لأن كل حيوان منوي يحوي مورثات مختلفة عما يحويه الحيوان المنوي الآخر. وإذا علمنا أن الرجل يقذف عشرات الملايين من الحيوانات المنوية في الجماع الواحد وكلها مختلفة عن بعضها البعض تبين لنا أن هنالك عشرات الملايين من الاحتمالات في الجنين الذي سيتكون لو حصل حمل في ذلك الجماع كل جنين منها غير الآخر، أما لو حصل الحمل في جماع آخر فهنالك عشرات الملايين أخرى من الأجنة المحتملة وكذلك لو كان الجماع في شهر آخر فاختلفت البييضة وباختلافها تختلف الأجنة المحتملة، وأياً كان الجنين المتكون فإنه يتكون بعلم الله وإذنه أي بقدره ويكون مخلوقاً لله مع أنه لم يتعمده، وهكذا يكون الله هو الذي خلق أهل الجنة وخلق أهل النار الذين علم مسبقاً أنهم سيكونون أهلها، لكنه خلقهم جميعهم على فطرة الإسلام واختاروا هم بحرية تامة طريق الهداية أو طريق الغواية فاستحقوا الجنة أو النار. ولعل الله يتدخل في اختيار الجنين الذي سيتكون لأبوين معينين من الأجنة المحتملة منهما إن هما أكثرا الدعاء له يطلبان منه ذرية صالحة فيختار لهما الصالح من ذريتهما، لكن حاشاه يتعمد خلق من يعلمه من أهل النار إن هو خلقه، مع أنه لن يدخله النار إلا بذنوبه التي ارتكبها بحرية تامة ، فالله هو الرحمن الرحيم، والذين يأتون إلى الدنيا وكان خيراً لهم أن لا يأتوا إنما يأتي بهم حظهم السيئ ويهلكهم عملهم وطغيانهم.

 

أما يوم القيامة، وبعد أن يدخل جميع أهل الجنة الجنةَ، ويبقى في النار من استحق الخلود فيها، يبقى في الجنة متسع، فيخلق الله خلقاً يسكنون فيه، أما النار التي تقول هل من مزيد فيضع ربنا فيها قدمه ليسكتها وتكتفي بمن فيها. قال ﷺ:

  • "لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد، حتى يضع فيها رب العزة، تبارك وتعالى. قدمه. فتقول: قط قط، وعزتك. ويزوي بعضها إلى بعض". رواه مسلم.

  • "لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد، حتى يضع رب العزة فيها قدمه. فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط. بعزتك وكرمك. ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقاً، فيسكنهم فضل الجنة". رواه مسلم.

  • "يبقى من الجنة ما شاء الله أن يبقى. ثم ينشئ الله تعالى لها خلقاً مما يشاء". رواه مسلم.

  • "تحاجت الجنة والنار. فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم؟ قال الله للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي. ولكل واحدة منكما ملؤها. فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله، تبارك وتعالى، رجله. تقول: قط قط قط. فهنالك تمتلئ. ويزوي بعضها إلى بعض. ولا يظلم الله من خلقه أحدا. وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا". رواه مسلم.

 

وهذا هو شأن الرحمن يخلق للجنة خلقاً يملؤونها ويتمتعون فيها مع أنهم لم يعملوا شيئاً ليستحقوها، أما النار فلا يدخلها إلا من استحقها بذنوبه الكبيرة.

تعليقات
العدد الكلي: 1 (20 في الصفحة)
سيد بن عيسى
منذ: الثلاثاء, 12 آذار / مارس 2024 11:45
جزاكم الله خيرا

تعليقك هنا
* الاسم الكامل
* البريد الإلكتروني
* تعليقك
* كود التحقق
 
 

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة