وجعلت قرة عيني في الصلاة
وجعلت قرة عيني في الصلاة
في هذا العصر الذي تعقدت فيه الحياة، وزادت فيه الضغوط على النفس البشرية وفقد فيه الإنسان الكثير من الطمأنينة التي كانت توفرها له بساطة الحياة قديماً، وقلة متطلباتها، وقناعته التي كانت كنزه الذي لا يفنى.
في هذا العصر الذي قلّ فيه العمل اليدوي الذي يتطلب انهماك الفكر واليد والتركيز فيما يصنع الإنسان، وحلّت الآلة محله إلى حد كبير، وصار يمكن للإنسان أن يدير آلة بقليل من التركيز، وكثير من الملل والسأم.
في هذا العصر الذي تكدست فيه الملايين في مدن مليئة بالضجيج والحركة، وحرم فيه هؤلاء من هدوء الحقل والجبل والشُطآن.
في هذا العصر الذي ضعفت فيه الروابط الأسرية والاجتماعية، وشحن الإنسان فيه بالعداء للكون كي يتحمس لقهره، والسيطرة عليه، فازداد الإنسان عزلة حتى وهو يعيش بين الملايين، وازدادت عزلته وغربته بعد أن صار يتصور الكون والطبيعة عدوين يجب أن يقهرهما.
في هذا العصر ازداد العبء على عقل الإنسان وركبته الهموم، فصار يعيش في همومه أكثر مما يعيش في واقعه الآني. صار شارداً في حديث نفسٍ لا يكاد ينتهي، فهو دائماً يخطط للمستقبل، ذلك الذي صار كابوساً مخيفاً وصارت توقعات المصاعب فيه أكثر من توقعات النّعم والمسّرات.
في هذا العصر صارت لحظات الانتباه التام إلى اللحظة الراهنة والمكان القائم، الذي يكون فيه هذا الإنسان بلا انشغال للفكر بشيء آخر، صارت هذه اللحظات من الانتباه رفاهية وكمالية لا تتاح للكثيرين.
لقد نسي إنسان الحضارة الحديثة كيف يوقف حديث نفسه الدائم، ليفتح عينيه على ما حوله ومن حوله، وليصغي بأذنيه وقلبه لمن حوله وما حوله، وصار تعليم هذا الإنسان كيف يعود إلى انتباهه، وكيف يحضر قلبه إلى حيث هو، صار ذلك اختصاصا وتجارة.. فمن دروس في اليوغا، إلى دروس في التأمل التجاوزي، إلى دروس في الاسترخاء العضلي، إلى دروس في التنويم المغناطيسي الذاتي، إلى دروس في الإخبار الحيويّ الراجع Biofeedback من أجل التحكم بسرعة ضربات القلب، ومقدار توتر العضلات، بل والتحكم بموجات الدماغ الكهربية. كل ذلك من أجل دقائق قليلة أو كثيرة من السّكينة النفسية، والتوقف عن حديث النفس وما يحويه من هموم أو ذكريات.
لكن المؤمن الذي يصلي لله تعالى كل يوم خمس مرات منذ أن يبلغ السابعة من عمره، هذا المؤمن يقوم إلى صلاته ليصليها بإتقان وإحسان، وكأنه يرى الله أمامه ينظر إليه وهو يؤديها، "...قالَ: فأخْبِرْنِي عَنِ الإحْسانِ، قالَ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فإنَّه يَراكَ،..." (صحيح مسلم). إنه يصلي وهو يستشعر حضور الله. قال ﷺ: "...إنَّ أحَدَكُمْ إذَا قَامَ في صَلَاتِهِ فإنَّه يُنَاجِي رَبَّهُ، أوْ إنَّ رَبَّهُ بيْنَهُ وبيْنَ القِبْلَةِ،..." (صحيح البخاري).
إنه دائما يُصلي وهو يحاول أن يكون حاضر القلب يعلم ما يفعل وما يقول، أي: منتبهاً وليس ساهياً شارداً في حديث النفس، فهو يعلم أن انتباهه وحضور قلبه لا بد منهما حتى يتحقق في صلاته الإتقان والإحسان، حتى أن عمار بن ياسر رضي الله عنه كان يقول: لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه.
وقد حثّ الرسول ﷺ المؤمنين على التركيز في صلاتهم والانتباه لما يقولون ويفعلون فيها، وعلى عدم السهو والاستغراق في حديث النفس أثناءها، فجعل لمن ينجح في أداء ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه جائزة عظيمة جداً، وهي أن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه.
روى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أن النبي ﷺ توضأ ذات مرة ثم قال: "...مَن تَوضَّأ مثلَ وُضوئي هذا ثمَّ قامَ فصلَّى رَكعتَينِ ، لا يحدِّثُ فيهِما نفسَهُ بشيءٍ غفرَ اللَّهُ لَه ما تقدَّمَ مِن ذنبِهِ" (رواه النسائي).
إن حضور القلب في الصلاة، وإيقاف الفكر خلالها عن انشغاله المزعج بحديث النفس والتفكير بما مضى أو ما قد يأتي.. إنّ هذا الحضور للقلب، والسكينة التي يجلبها للنفس من أهم الأسباب التي جعلت الصلاة قرة عين النبي ﷺ وراحته: "أرِحْنا بها يا بلالُ" وقرّة عين وراحة لكل المؤمنين من بعده.
تعليقات
لا توجد تعليقات بعد
تعليقك هنا