نظرات نفسية في الصيام
نظرات نفسيّة في الصّيام
1. "لَعَلَّكُم تَتَّقُون"
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].. إذاً التقوى هي الثمرة المرجوة من الصيـام. ولكن كيف يؤدي الصيام إلى التقوى؟ إن التقوى اتقاء لغضب الله، والسبيل إلى اتقاء غضبه هي اجتناب ما حرم، والامتناع عن الوقوع فيما نهى عنه، لكن أهواء النفوس ودواعي الانحراف عن هدي الله تحيط بالمؤمن وتغريه بالوقوع فيما حـرم الله، والشيطان قد كرس حياته ليزين للناس معصية الله، ويجعلهم يشتهونها، لما يظنون فيها من متعة أو منفعة.. والتقوى تتطلب قدراً كبيراً من التحكُّم بالنفس ومقاومة هواها: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ﴾ [النازعات: 40 – 41]. والإنسان لا يولد متحكماً بنفسه ومسيطراً على أهوائه، بـل الطفل الصغير لا يكاد يصبر عن شهوة أو حاجة، إنما يطلب إشباع رغباته على الفور، ويزعجه ألاّ يحصل على ما اشتهاه، فيصرخ ويبكي ويصر على ما أغراه وحرك هواه، لكن هذا الصغير الذي تتحكم به أهواء نفسه وشهواتها يكبر ويتعلم من والديه والآخرين من حوله أن عليه أن يتحكم بأهوائه ويمنع نفسه عن شهواتها أحياناً، وأنـه لا يمكنه أن يفعل ما يشاء دائماً، ولا أن يتمتع بكل ما ترغب به نفسه، بل هنالك ممنوعات إذا وقع فيها وقعت عليه العقوبة وناله الألم النفسي أو الجسدي أو كلاهما معاً.. لذا كان الطفل المدلل الذي يغرقه والداه بكل ما يشتهيه من متع وأشياء، كان هذا الطفل أضعف الناس من حيث التحكم بأهوائه وضبط نفسه أمام المغريات. وعلماء النفس المعاصرون يرون أن التحكم بالنفس Self Control يتركب من مكوّنتين الأولى هي مقاومة الإغراء Resistance to Temptation، والثانية هي تأجيل الإشباع Delay of Gratification، حيث تعني مقاومة الإغراء أن يمتنع الإنسان عن فعل ما حُرِّم عليه رغم قدرته على ذلك وتوفر الفرصة أمامه للوقوع فيه، ويعني تأجيل الإشباع أن يحرم الإنسان نفسه من رغبة ومتعة عاجلة كي يحصل على متعة آجلة أعظم منها.. فالذي يمتنع عن أخذ ما ليس له رغم سنوح الفرصة لذلك مع أَمْنِ العقوبة فإنه يكون قد قاوم الإغراء، وأما الطالب الذي يحرم نفسه من اللعب والتسليـة كي يدرس أملاً في نجاح مشرِّف يستطيع بعده أن يلعب ويتسلى وهو يتمتع بالنجاح في الوقت نفسه، هذا الطالب يكون قد أجّل إشباع رغبته في اللعب والتسلية.. وبالتمرس على مقاومة الإغراء وتأجيل الإشباع تنمو قدرة الإنسان على التحكم بنفسه ومقاومة هواه.
والذي يتأمل صيامنا في رمضان يجد فيه دورة سنوية مكثفة على مقاومة الإغراء وتأجيل الإشباع وبالتالي على التحكم بـالنفس الذي يشكل أساساً هاماً للتقوى.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزَكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
2. "إنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَر"
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [الأنفال: 65]، إذن بالصبر تتضاعف قدرة المؤمن على القتال وقوته في الحرب والبأس عشر مرات.. هذا هو الحال المثالي الذي يتحقق فيه للمؤمن أقصى درجات الصبر وأعلاها، ويبقى المثال فوق الواقع، ولا عيب في ذلك، إذ المثال هو القمة التي يصبو إليها الإنسان ويسعى لبلوغها، والإنسان على الطريق الصحيحة ما دام متجهاً صوب المثال مهما تعثر وقام وتكرر تعثره وقيامه، ويبقى للضعف البشري أثره في جعل الواقع دون مستوى المثال.. لذا فإن المولى تعالى بعد أن حدثنا عن المؤمن الذي بلغ صبره مستوى المثال والكمال فتضاعفت قوته وقدرته على التغلب على عدوه عشر مرات، بعدها يحدثنا عن الواقع وعن رضاه منا وقبوله بما هو دون المثال بكثير، يقول تعالى: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 66]، فبالصبر تتضاعف قوة المؤمن أمام عدوه مرتين رغم الضعف الذي يمنع من بلوغ الصبر المثالي.
ولنتفكر في ضوء ذلك بقصة بني إسرائيل الذين بعث الله لهم طالوت ملكاً عليهم يقودهم في القتال في سبيل الله، وكان ذلك إجابة لطلبهم ﴿..فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ..﴾ [البقرة 246].. وبعد أن شكل طالوت جيشاً من بني إسرائيل، وانطلق بهم مجاهداً في سبيل الله أراد له الله ألاّ يصحبه في جهاده إلاّ الصابرون منهم، فاختبرهم اختباراً بسيطاً يُظهر مدى صبرهم وبالتالي كفاءتهم المتوقعة في القتال الذي هم مقبلون عليه.. لقد كانوا عطاشاً وكان الاختبار هو أن يمتنعوا عن شرب الماء من نهر يمرون عليه في طريقهم، وكان في عذوبة ماء النهر إغراء لهم بالشرب منه، لكن كان مطلوباً منهم مقاومة الإغراء وتأجيل الإشباع إلى أن يأذن الله لهم بذلك بعد أن يجتازوا هذا الاختبار لصبرهم، ورحمة بهم رخص لهم أن يغترفوا من النهر غرفة باليد تبل الريق وتُرطِّب الفم.. قال تعالى: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۚ..﴾ [البقرة: 249]، ولم يرغب طـالوت إلاّ بهذه الفئة القليلة الصابرة كي تكمل معه مسيرة الجهاد والقتال في سبيل الله: ﴿..فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ.. (251)﴾ [البقرة: 249 – 251].
ألا يذكرنا اختبار الصبر الذي اختار طالوت جنوده على أساسه، ألا يذكرنا بصومنا في رمضان حيث نتدرب فيه كل عام على مقاومة الإغراء وتأجيل الإشباع والتحكم بالنفس عموماً، وبالتالي على الصبر؟ والصبر على الطاعات وعلى حرمـان النفس من هواها الذي لا يتفق مع أمر الله، هذا الصبر من عناصر التقوى التي لا تقوم إلاّ بها، فالصوم في رمضان درس في الصبر وتربية للنفوس المؤمنة على تقوى الله.
3. "فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاء"
روى البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن يزيد قال: دخلت مع عَلْقَمَة والأسودِ على عبد الله، فقال عبد الله: كُنّا مع النبيّ ﷺ شباباً لا نجد شيئاً، فقال لنا رسول الله ﷺ: "يا معشرَ الشَّباب، من استطاع الباءَةَ فليتزوج، فإنَّهُ أًغَضُّ للبصر، وَأَحْصَنُ للفرجِ، ومن لم يستطعْ فعليه بالصومِ فإنّهُ له وجاءٌ " (ورواه مسلم أيضاً في صحيحه).
إن تفوق الإنسان على جميع الحيوانات التي خلقت قبله يكمن في تحرره من الغرائز إلى حد كبير يكاد يكون تاماً، والرغبة الجنسية لدى الإنسان تنبني على أساس عضوي مرتبط بالهرمون الذكري الذي يزيد هذه الرغبة عند الرجال وعند النساء على السواء، وإن كانت النساء تحتاج إلى مقدار العشر مما يحتاج إليه الرجال من الهرمون الذكري لهذا الغرض، كما يرتبط بنشاط النواقل العصبية في المخ مع أهمية خاصة للناقل المسمى "الدوبامين"، وتنبني هذه الرغبة أيضاً على خبرات الحياة منذ الطفولة وطيلة العمر، وعلى مشاعر أخرى حيث يمكن أن يعبر اللقاء الجنسي عن قمة المودة أو على النقيض يمكن أن يعبر عن أشد العداوة والبغضاء.
والصوم وِجاء لمن لا يستطيع الباءة، أي لا يملك القدرة المالية على الزواج، وكثيرون يظنون أن الصوم يضعف الرغبة الجنسية من خلال إضعافه للجسد عموماً بتجويعه وتعطيشه، لكن هذا ليس صحيحاً، فالصوم وجاءٌ حتى لو تسحر الصائم سحوراً طيباً بحيث لا ينقص من غذائه ذلك اليوم شيئاً، والصوم وجاء حتى لو أفطر الصائم متعجلاً للفطر على أشهى الطعام وأفضله من حيث القيمة الغذائية.. والصوم لا يقتل الرغبة الجنسية عند الصائم، فقد كان الجماع محرماً في شهر الصوم حتى في الليل فوقع كثير من الصحابة في المخالفة لعدم قدرتهم على منع أنفسهم فقال تعالى لهم: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ..﴾ [البقرة: 187].
إن الزواج بما يتيحه من فرصة لإشباع الرغبة الجنسية عند الرجل والمرأة يجعل من اليسير عليهما أن يغضا البصر عن الحرام وأن يحصنا الفرج عن الزنا، لكن الإحباط الذي تتعرض له هذه الشهوة الفطرية عند الأعزب والعزباء اللذين لا يقعان في الحرام، هذا الحرمان والإحباط مع ما في أبدانهما من عنفوان وهرمونات خلقت لتحث الناس في عمر الشباب على الانجذاب والتزاوج ليستمر التناسل والتكاثر ولتتعمق المودة بين الزوجين، هذا كله يمكن أن يسبب للشاب أو الفتاة انشغالاً وسواسياً للفكر بهذه الشهوة، يجدان صعوبة بالغة في إيقافه والتحرر منه كي يتفرغا إلى ما يريدان من درس أو تحصيل أو عمل أو عبادة.. إن هذا الانشغال الوسواسي بالشهوة الجنسية يشبه انشغال فكر العاشق بمعشوقه، وانشغال فكر الجائع المحروم بالطعام حتى إنه يحلم في نومه بوجبات شهية ويكثر حديثه عن المأكولات كما بينت ذلك الدراسات النفسية، وكما يلاحظ الموظفون عند اقتراب الدوام من نهايته حيث من السهولة توريطهم بحديث لا يكاد ينتهي عن الطعام وأصنافه.
والصوم وجاء من حيث قدرته على إيقاف هذا الانشغال الوسواسي بالشهوة الجنسية، وقد لا يظهر أثره من أول يوم صيام لكن مع مرور بضعة أيام يشعر الشاب والفتاة أن بمقدورهما إبعاد الموضوع عن الذهن والتركيز على ما لديهما من مهمات، إذ لم تعد الخيالات الجنسية تقتحم عليهما الذهن والخاطر، هذا بشرط أن يترافق الصوم مع الابتعاد عن المثيرات الجنسية، إذ إن وجد المثير وجدت الشهوة حتى في حال الصوم، وهذا ما يجعل عامة الناس لا يحبذون زواج الشباب قبيل رمضان أو خلاله لصعوبة ضبط النفس مع وجود المثير وعدم وصول هذين الشابين إلى قدر من الإشباع الذي يتمتع به المتزوجون عادة، أما الآلية التي يقوم الصوم من خلالها بتأثيره هذا فما زالت تنتظر الباحثين المسلمين كي يكتشفوها.
ثم إن الصوم وجاء من حيث هو عبادة مستمرة من الفجر إلى الغروب، إن نسي الصائم أنه متلبس بها للحظات، ما يلبث أن يتذكر ليعود إلى جو العبادة وغض البصر وحفظ اللسان.
ويبقى للزواج الأفضلية، إذ لم يخلق الله فينا الشهوة ليعذبنا بها، لكنه أمرنا أن لا نشبعها بالحرام.. فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجـــاء..
4. "فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِم"
قال رسول الله ﷺ: "كلُّ عَمَلِ ابنِ آدمَ لهُ، إلَّا الصُّومُ، فإنَّهُ لي، وأنا أَجْزِي بهِ، والصِّيامُ جُنَّةٌ، فإِذَا كان يومُ صِيامِ أَحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ، ولا يَصْخَبْ، فإنْ سابَّهُ أحدٌ أوْ قاتَلهُ فَلْيَقُلْ: إِنِي صائِمٌ.." (متفق عليه).
لقد كتب الله علينا الصيام في رمضان ليدربنا على التقوى ويجعلنا نجربها ونتذوقها، فننطلق من رمضان في رحلة تقوى تستمر طيلة العمر عاماً بعد عام، وفي كل عام نزداد تقوى لله من خلال صيامنا رمضان آخر.. ولا تكتمل تقوى المؤمن إلاّ بكظم الغيظ، إذ به يتجلى التحكم بالنفس وضبطها في جانب آخر غير الطعام والشراب والشهوة الجنسية، إنها شهوة الانتقام للنفس عند تعرضها لجهل الجاهلين واعتداء المعتدين، وهي شهوة مشروعة طالما بقي المؤمن عادلاً يعاقب بمثل ما عوقب به، فلا ينتقم ممن اعتدى عليه انتقاماً يفوق الإساءة التي تعرض لها فيصبح هو ظالماً لمن بدأه بالعدوان.. ولكننا في الصيام نمتنع عما أحل الله لنا من طعام وشراب وشهوة، ونمتنع معها عما أحل الله لنا من انتقام عادل لأنفسنا، وهو وإن كان امتناعاً مؤقتاً من الفجر إلى الغروب، لكنه يزيدنا قدرة على الامتناع الدائم عما حرم الله علينا من شهوات فيها الإثم والضرر.
وفي رمضان يزداد المتقون حسن خلق، ويكظمون غيظهم فيكون صومهم أقرب ما يكون إلى الكمال، إذ لا قيمة للامتناع عن الطعام والشراب ما لم يرافقه حسن الخلق والامتناع عما يغضب الله من قول أو عمل، فقد قال النبي ﷺ: "مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ" (رواه البخاري). لكن المؤسف أن البعض يزداد سوء خلق إذا صام في رمضان، ويقل صبره على أهله أو الناس الذين يتعامل معهم في عمله، ويحتج بأنه صائم وليس مستعداً لأن يتحمل أحداً.. إنه لا يصبر على مسبة أو مقاتلة، بل يثور في وجه من قد يلح عليه إلحاحاً بسيطاً طالباً منه حاجته، وصاحب الحاجة أرعن كما يقولون بحكم حرصه على حاجته.. ولو صح أن الصوم عن الطعام والشراب يؤدي إلى سوء الخلق لما كتبه الله علينا ليعلمنا التقوى من خلاله، ولو صح أن الجوع والعطش يجعلان الإنسان سيئ الخلق، لكنا قبلنا ذلك آخر النهار لا أوله، فالموظف الذي يسيء معاملة مراجعيه منذ الصباح الباكر مُتَعَلِّلاً بأنه صائم، لا يمكن أن يكون الجوع والعطش سبباً لسوء خلقه وبخاصة إن كان قد تسحر كما يفعل أكثر الصائمين.
قد يكون لدى البعض أسباب للعصبية في الصيام، لكن البعض الآخر يستفيد من رمضان كي يعطي نفسه هواها ويظهر غضبه وسوء خلقه مطمئناً إلى أن الصيام عذر مقبول، حيث يتسامح الناس معه على سوء خلقه أولاً لأنهم خير منه، فقد صـاموا عن الغضب وسوء الخلق مثلما صاموا عن الطعام والشراب، وثانياً لأنهم يحسنون الظن به ويصدقون أنه معذور حقاً في أن يكون سيئ الخلق بسبب الصيام، وهو لسوء خلقه المتأصل فيه يستغل هذه الفرصة ويظهر قلة أدبه.. ومثل هذا المؤمن الذي لم يكتمل إيمانه بعد مدعو لمراجعة نفسه والتذكر أن من الخير له أن يرضي ربه ويحسن خلقه ليدخل في عداد المتقين الذين تنتظرهم جنة عرضها السماوات والأرض.
5. الصِّيَام لا يُسبِّب العَصبيّة
بعض الصائمين يجدون صعوبة في السيطرة على انفعالاتهم الغضبية، فيثورون لأبسط الأمور، وبعد ثورتهم هذه يدركون أن رد فعلهم كان مبالغاً فيه، ويشعرون بالأسف والندم لأنهم عجزوا عن أن يكونوا على المستوى الراقي المتوقع من المؤمن الصائم.
وليست العصبية وسرعة الاستثارة دليلاً على سوء الخلق دائماً، بل كثيراً ما تنتج عن خلل كيميائي أو كهربائي في المخ يجعل الإنسان على حافة الغضب دائماً، فيغضب ثم يندم لكنه ما يلبث أن يغضب في موقف أخر ويتكرر منه الندم.. ومن الحالات التي تتأثر فيها قدرة الإنسان على الحلم وتحمل الآخرين وكظم الغيظ حالات القلق النفسي والاكتئاب وغيرهما من الحالات النفسية المزعجة، ومنها تأثره بمواد مؤثرة على المخ تناولها إما بقصد العلاج أو بقصد المتعة المحرمة كالخمور والمخدرات والمنبهات، إذ تزيد هذه الأخيرة العدائية عند الإنسان وتجعل الواقع تحت تأثيرها سريع الغضب حتى لو كان في الأصل طيب القلب حسن الخلق.. وكذلك الحالات التي يحرم فيها الدماغ من مادة كيماوية كانت ترفع المزاج فيه فانقطع صاحبه عن تناولها فجأة، فيضطرب عمل خلايا المخ التي تعودت على وجود تلك المادة الكيماوية فيها وبرمجت نفسها على ذلك، ومن المواد التي يتعاطاها الكثيرون ويضطرون للامتناع عنها في نهار رمضان التبغ والكافئين.
لقد شاع التدخين لدى الكثيرين وصار لدى البعض دليلاً على رجولة زائفة، وأكثر المدخنين لا يدرون أنهم مدمنون.. فالمدخن الذي يواظب على التدخين يومياً لمدة طويلة هو مدمن على مادة النيكوتين التي يحتوي عليها دخان السجائر الذي يستنشقه المدخنون، وعند انقطاع المدخن الصائم عن السجائر بضع ساعات يبدأ بالمعاناة من أعراض الحرمان من النيكوتين، وهذه الأعراض تشمل العصبية وسرعة الغضب والتململ والصداع وضعف التركيز وانخفاض المزاج والقلق وضعف الذاكرة واضطراب النوم.. وهي أعراض لا تدوم أكثر من أسبوع عادة إن استمر الإنسـان في الامتناع عن التدخين، لكنها في الأيام الأولى مزعجة وتجعل كثيراً من الصائمين يفطرون على سيجارة قبل أي طعام أو شراب.. وهذا يرينا أن الصيام بحد ذاته لا يسبب العصبية إذ الأصل أن لا يدمن المؤمن على ما ضرّه أكبر من نفعه.
كما أن هناك إدماناً آخر شائعاً بين الناس يتسبب في عصبية بعض الصائمين وهو الإدمان على مادة الكافئين الموجودة في القهوة والشاي والكاكاو والكولا، والانقطاع المفاجئ عن الكافئين يتسبب بعد عدة ساعات بشعور المدمن عليه بالكسل والنعاس وفقد الرغبة في العمل، ويتسبب كذلك بالعصبية وانخفاض المزاج. وإذا طـال الامتناع المفاجئ عن الكافئين وبلغ ثماني عشرة ساعة أو أكثر فقد يصاب الإنسان بصداع يشمل كامل رأسه يكون الألم فيه نابضاً يشتد مع كل ضربة من ضربات قلبه، وفي أغلب بلاد المسلمين قلما يبلغ صيامنا هذه المدة الطويلة لذا فإنه مـن المفيد لمن تعود على القهوة أو الشاي أو الكولا أو الكاكاو إما أن يخفف مقاديرهـا بالتدريج قبل رمضان أو أن يتناول جرعة جيدة منها عند السحور حتى لا يعاني من أعراض الحرمان منها أثناء الصيام.
ومرة أخرى نجد أن الصيام لا دخل له في العصبية وسرعة الغضب إنما هي عادات صار الكثيرون منا أسرى لها يأتي الصيام ليذكرنا ويلفت انتباهنا إلى هذا الأسـر والخضوع الذي وقعنا فيه.
6. لا حَرَج
إن من نعم الله علينا أن جعل لنا الليل نسكن فيه وننام، ذلك أن النوم حاجة لا يستغني عنها الإنسان، وهو ضروري ليستعيد الجسد حيويته وطاقته وليستعيد العقل نشاطه بعد التعرض للضغوط النفسية والإجهاد طيلة النهار، وإذا ما حُرم الإنسان النوم مدة تزيد عن يوم كامل بدأ يعاني من الإرهاق النفسي، وإذا زادت الأيام دون أي نوم فإن البعض يضطرب عقلياً وتظهر لديه الهلاوس والتوهمات.
وفي رمضان يضطرب نظام نوم بعض الصائمين إذ ينفقون الليل في السمر والأكل والشرب، حتى إذا اقترب الفجر تسحروا وناموا، وبعضهم يحرص على صلاة الفجر فينام بعد أن يؤديها.. ومع أن الحكومات في معظم البلدان الإسلامية تؤخر بداية الدوام الرسمي في رمضان فإن الساعات الباقية بين الفجر وبداية الدوام لا تكفي ليستعيد هذا الصائم نشاطه العقلي والبدني وقد حرم نفسه من ساعات النوم التي اعتاد عليها، فيذهب إلى عمله والإرهاق ظاهر على وجهه والكسل مسيطر عليه ولا رغبة له في العمل، فتمر ساعات العمل شاقة عليه ومزعجة له. إنها عادة لا تتمشى مع نمط الحياة المعاصرة حيث الواجبات الكثيرة والمواعيد المنتظمة، وحتى أيام النبي ﷺ حيث لم يكن شعور الناس بالزمن زائداً كما هو حالنا اليوم، مع ذلك لم تكن عادته ﷺ أن يسهر الساعات الطويلة ينتظر السحور إلاّ إن سهر لقيام الليل وتلاوة القرآن. إن لأبداننا علينا حقاً، ويكفيها في رمضان مشقة الصيام عن الطعام والشراب والشهوة، ومن الخطأ أن نضيف إلى تلك المشقة اضطراب نظام النوم لدينا حيث ننام في النهار بعد العودة من أعمالنا أكثر بكثير مما ننام في الليل.
ومن ناحية أخرى فإن بعض الصائمين الميالين بطبعهم إلى القلق النفسي قد يعانون في رمضان من انخفاض معنوياتهم في النهار، ويبدأ ذلك لديهم منذ الصباح مع أنهم لم يجوعوا بعد ولم يعطشوا وبخاصة إن كانوا قد تسحروا قبيل الفجر، وانخفاض معنوياتهم هذا يعود إلى إحساسهم بقلق غامض مرتبط بخوفهم من المعاناة نتيجة عدم قدرتهم على الأكل والشرب إلى غروب الشمس، وهذا قلق وتخوف لا داعي له، إذ ديننا دين رفع الحرج، وديننا دين الرحمة ولا مكان فيه لتعذيب النفس، فالذي صام إن بلغ به الجهد حد الألم والمعاناة فالرخصة له في أن يفطر ويصوم بعد رمضان بدلاً عما أفطر، هذه الرخصة قائمة، وكل مؤمن أدرى بنفسه وبقدرته على إتمام صومه، ولن يخدع اللهَ أحدٌ، فهو العالم بالسر وما أخفى من السر، وهو الذي يعلم ما في نفوسنا ولا نعلم ما في نفسه سبحانه وتعالى، لكن الذي لا شك فيه ولا خلاف عليه أن الله لا يرضى لنا العذاب والمشقة والحرج، وأننا مطالبون أن نتقيه ما استطعنا، وأنه لا يطالبنـا بما لا طاقة لنا به، والمؤمن الصائم إن كان من الذين يميلون إلى القلق النفسي سيخف قلقه إن أدرك أن الرخصة بالفطر إن بلغ به الجهد حداً يؤلمه قائمة ومتاحة له، وعلى الغالب فإنه لن يفطر، إذ قلما يبلغ الجهد بالإنسان حد العجز عن الاستمرار في الصوم دون معاناة إلاّ في حالات خاصة يتعرض فيها الصائم لحر شديد مثلاً أو لا يصحو للسحور ويجهده الجوع أو غير ذلك.
أما إن أصابه المرض وهو صائم حتى لو كان صداعاً فله أن يفطر ويتداوى، هذا وإن كان الصيام ضاراً بصحته فليس له الخيار، بل عليه المحافظة على صحته وهو معذور في ذلك من الخالق الرحيم الذي كتب علينا الصيام كما كتبه على الذين من قبلنا لعلنا نتقيه لا ليعذبنا به.. إن الظن أن تعذيب الجسد يؤدي إلى سمو الروح، والظن أن تعذيب الجسد عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله ليس من هدي الرسول ﷺ لقد نزَّه الله دينه عن الحرج، والحرج دون العذاب والمعاناة الصريحة: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ..﴾ [الحج: 78].
فلنقبل على صيامنا منشرحين بالطمأنينة إلى رحمة الله بنا، فهو الرؤوف الرحيم سبحانه وتعالى.
7. "في السَّحُورِ بَرَكَة"
كتب الله علينا الصيام لنتدرب على التقوى ونزداد منها لا لنتعذب بالجوع والعطش، فالمبالغة في الجوع والعطش ليست مطلوبة ولم يرد أنها تزيد من أجر المؤمن على صيامه، ثم إن رحمة الله تتجلى في أن جعل الصيام لساعات محدودة كل يوم بحيث يبقى الليل لنا نأكل ونشرب ونتمتع بما أحل الله لنا..
لقد كتب الله علينا الصيام حيث نصبر على الامتناع عما تشتهيه أنفسنا من طعام وشراب وشهوة حلال، فإذا ما غربت الشمس أبيح لنا كل ذلك وامتلأت أنفسنا بالرضى عن أنفسنا وبالثقة إذ اكتشفنا أننا قادرون على التحكم بأنفسنا إلى حد معقول، أما نبينا ﷺ الذي كان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً فقد سن لنا السحور وسن تأخيره، كما سن لنا التعجيل في الفطر عند الغروب، ونهانا عن الوصال في الصيام وهو أن يصل المؤمن صوم يوم بيوم يليه دون أن يفطر.. قال ﷺ: "تسحَّروا فإنَّ في السَّحورِ بركةٌ" (رواه البخاري ومسلم)، وقال أيضــاً: "لا يَزالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ ما عَجَّلُوا الفِطْرَ" (رواه البخاري ومسلم).
وقد وردت الأحاديث التي تؤكد أن النبي ﷺ كان يؤخر سحوره إلى قبيل الفجر، فقد قال زيد بن ثابت رضى الله عنه: "تسحرنا مع رسول الله ﷺ ثم نمنا إلى الصلاة. قيل: كم كان بينهما؟ قال: خمسون آيــة" (متفق عليه)، إذن كان الوقت بين سحورهم مع رسول الله ﷺ وصلاتهم الفجر مقدار قراءة أحدنا لخمسين آية من القرآن الكريم لا أكثر، وقد كان لرسول الله ﷺ مؤذنان للفجر، فكان بلال رضى الله عنه يؤذن الأذان الأول قبيل الفجر بدقائق قليلة، إذ ما أن ينزل بلال من على السطح الذي كان يـؤذن منه، ويرقى المؤذن الثاني وهو ابن أم مكتوم حتى يكون الفجر قد طلع ويؤذن ابن أم مكتوم الأذان الثاني، ولنتأمل رحمة الله ورسوله بنا إذ قال ﷺ: "إن بلالًا يؤذِّن بليلٍ، فكلوا واشربوا حتى يؤذِّن ابنُ أمِّ مكتومٍ" ويقول ابن عمر رضي الله عنهما وهو يروي هذا الحديث: "ولم يكُن بينهما إلَّا أن يَنزِلَ هذا ويَرقَى هذا" (رواه البخاري ومسلم).
والذي بينه علم وظائف الأعضاء (الفيزيولوجيا) المعاصر حول المعاناة التي يمكن أن يسببها الجوع يتلخص في أن المعدة بعد أن تفرغ من الطعام الذي كان فيها، ويمضي على فراغها عدة ساعات تبدأ فيها تقلصات قوية تسمى "انقباضات الجوع" تترافق مع الإحساس النفسي بالجوع والرغبة في تناول الطعام، وهذه الانقباضات في المعدة تكون أشد ما تكون في الشباب والشابات ذوي الصحة الجيدة حيث المعدة لديهم نشيطة. كما إن انخفاض سكر الدم نتيجة الصيام يزيد من انقباضات الجوع هذه كثيراً ليحث الإنسان على تناول الغذاء وتأمين ما يحتاجه الجسم.. فإذا طال جوع الإنسان صارت انقباضات الجوع هذه انقباضات مؤلمة وصار اسمها "عَضّات الجوع"، وهي تظهر عادة بعد (12 – 24) ساعة من آخر وجبة، وهذا يختلف من شخص إلى آخر كعادة الأجسام في الاختلاف.. أما في حالة المجاعة أو الصيام المتواصل فإن عضات الجوع تشتد لتبلغ أقصاها في اليوم الثالث أو الرابع ثم تضعف تدريجياً في الأيام التالية ويتلاشى معها الإحساس بالجوع مع أن الإنسان لم يذق طعاماً، ويكاد يموت مـن الحرمان من الغذاء.
إن الجوع هو الإحساس الذي يدعو الكائن الحي إلى تناول الطعام، وقد وجد العلماء في الدماغ لدى البشر ولدى الحيوانات مركزاً صغيراً جداً إذا ما تنبه أحس الكائن بالجوع وأقبل على الطعام، وإذا ما خربه المرض أو استأصله الجراح فقد الإنسان أو الحيوان أي رغبة في الطعام فقداً نهائياً ومات جوعاً رغم أن الطعام الوفير أمامه.
إن بركة السحور وتعجيل الفطر يقللان من بلوغ الصائم مرحلة عضات الجوع المؤلمة، وتؤكدان أن المشقة ليست مطلوبة بحد ذاتها وأن الصائم لا ينقص أجره إن تسحر سحوراً جيداً يعينه على الصيام بأقل قدر من المشقة.
8. "وبالأسْحارِ هُم يَسْتَغْفِرُون"
في بداية الدعوة الإسلامية كان قيام الليل فريضة على النبي ﷺ وأصحابه، وبعد أن حقق القيام والقرآن الذي يتلى فيه الغرض الذي فرض من أجله، وقام بغسل قلوب الكوكبة الأولى من الصحابة من أدران الجاهلية لتكون النـواة التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي فيما بعد، بعد هذا خفف الله عن المؤمنين وصار قيام الليل سنة، ورمضان موسم من مواسم هذه السنة الرائعة.. قال ﷺ: "مَن قامَ رمضانَ إيمانًا واحتِسابًا؛ غُفِرَ له ما تقَدَّمَ مِن ذَنبِه" (متفق عليه).
ولكن في عصرنا الحالي كثرت الدراسات الطبية والنفسية على نوم الإنسان وأهمية الهجوع والسكن كل ليلة لصحة الإنسان العقلية والجسدية، فلو حرم إنسان ما من النوم حرماناً تاماً عدة أيام لأصابه إرهاق ذهني شديد جداً وقد يبلغ به الأمر حد الهلوسة والتوهم.
أما من الناحية الجسدية فإنه أثناء النوم يتم ترميم ما اهترأ من جسم الإنسان خلال النهار، وأثناء النوم وبخاصة نوم الليل يتم النمو، إذ تزداد في الليل الهرمونات التي تحرض النمو والترميم في الجسد، وتزداد في النهار الهرمونات التي تنشط الجسم من أجل العمل والحركة واليقظة، وفي النهار يغلب معدل الاهتراء في الجسم معدل الترميم والبناء ليكون تعويض ذلك أثناء النوم في الليل.. قال تعالى: ﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [القصص: 73].
هل يعني هذا أن قيام الليل يكون على حساب صحة الإنسان العقليـة والجسديــة؟
والجواب المتوقع هو: لا بالطبع، إذ لم يشرع الله لنا إلاّ الطيبات وما فيه صلاحنا ولم يحرم علينا إلاّ الخبائث وما فيه الضرر لنا.. ولكن أين تكمن المنفعة العاجلة في قيام الليل؟
لقد كشفت دراسات الأطباء النفسيين في السنوات الأخيرة أن حرمان المريض المصاب بالاكتئاب النفسي من النوم ليلة كاملة وعدم السماح له أن ينام في النهار الذي يليها حتى يأتي الليل من جديد، هذا الحرمان من النوم له فعل عجيب في تخفيف الاكتئاب النفسي عند الإنسان وفي تحسين مزاجه حتى لو كان من الذين لم تنفع فيهم الأدوية المضادة للاكتئاب.
ثم تلا ذلك دراسات أخرى بينت أنه لا داعي لحرمان المريض من النوم ليلة كاملة كي يتحسن مزاجه، إنما يكفي حرمانه من النوم النصف الثاني من الليل ليحصـل على القدر نفسه من التحسن، والنصف الثاني من الليل هو الذي يكون فيه السحر الذي أثنى الله على من ينفقه في الاستغفار والقيام.. قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ (16) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ (16)﴾ [الذاريات: 15- 18].
فسبحان الذي جعل لنا في قيام الليل والتهجد في الأسحار جائزة فورية قبل الثواب الأخروي، وهي اعتدال المزاج وتحسنه لدى القائمين والمتهجدين، وعافية نفسية تجعلهم أكثر سعادة في الدنيــا قبل الآخــرة.
9. الصَّومُ التِزام
لا يكون البقاء بلا طعام أو شراب أو شهوة من الفجر إلى الغروب، لا يكون صوماً ما لم ترافقه نية الصيام، وفي صوم الفريضة اشترط الفقهاء أن تسبق النية بداية الصوم، أي أن تكون قبل طلوع الفجر، إذ الأعمال بالنيات، ثم إن النية تجعل الصيام التزاماً يلتزم به المؤمن فيمتنع عن الطعام والشراب والشهوة من تلقاء نفسه ولا يحتـاج إلى رقيب عليه يتأكد من صيامه.
والقدرة على الالتزام والمحافظة على هذا الالتزام من علامات نضج الشخصية لدى الإنسان، كما إن الالتزام المتمثل بنية الصيام يجعل الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة ابتغاء مرضاة الله أهون على النفس مما لو كان البقاء دون أكل وشرب ناتجاً عن مانع من خارج النفس، كأن يمنعك شخص من الوصول إلى الطعام والشراب مثلاً، إذ في هذه الحالة يكون الجوع والعطش أشد، وهذا ما بينته الاختبارات النفسية حيث وجدت أن "الالتزام يغير الدافــع"، وهي عبارة من علم النفس تعبر عن نتيجة لدراسات عديدة، في إحداها حضر الأشخاص الذين ستتم عليهم التجربة دون أن يأكلوا أو يشربوا لعدة ساعات قبل مجيئهم وذلك بناء على ما طلبه الباحثون منهم، ثم بعد وصولهم طلب الباحثون من بعضهم أن يبقى دون طعام أو شراب فترة أخرى -دون أي مقابل مالي أو غير مالي- وقبل هؤلاء أن يلتزموا بذلك، فكان صومهم عن الطعام والشراب لساعات أخرى التزاماً منهم وقراراً اتخذوه بحرية وإن كان استجابة لطلب من الباحثين، لكن كان لهم الحرية في أن يرفضوا ولا يلزموا أنفسهم بذلك.. أما بـاقي الأشخاص المجرب عليهم فلم يطلب منهم الالتزام بالبقاء دون طعام وشراب إنما تركهم الباحثون دون طعام وشراب وجعلوا الأمر يبدو لهم وكأنه غير مقصود. وفي نهاية التجربة أجريت على الجميع اختبارات نفسية لمعرفة شدة الجوع والعطش لديهم، فوجد أن الذين التزموا بالامتناع عن الطعام والشارب التزاماً كـانوا أقل جوعاً وأقل عطشاً من الذين تمت مماطلتهم بحيث صاموا الساعات نفسها لكن دون التزام منهم بذلك، كما تمت معايرة "الحموض الدسمة الحرة" في دمائهم جميعاً، وهي مواد تزداد في الدم كلما اشتد الجوع عند الإنسان، فوجد أنها كانت أقل ازدياداً عند الذين التزموا بالصيام التزاماً.. وهكذا كان للالتزام بالصوم أثـر حتى على رد فعل أجسامهم الفيزيولوجي نتيجة بقائهم دون طعام أو شراب الساعات الطويلة.
وفي دراسة أخرى: درس العلماء أثر الالتزام على العطش، فوجدوا أن العطش عند من التزم من تلقاء نفسه بالامتناع عن الماء كان أقل حتى في الاختبارات النفسية التي تكشف مدى انشغال النفس اللاشعوري بالعطش وبالرغبة في الماء.
إن الصوم صبر، والصبر في جوهره التزام ورضا بالحال التي يضعنا الله فيها، وبالصبر تهون المعاناة وتقل، لأن الرضا حتى بالمصائب يشبه الالتزام بها، كالذي منع نفسه من الطعام والشراب لأنه يريد الصيام لله تعالى، والذي ابتلاه الله بالفقر والمرض أو بفقد عزيز فصبر، فإنه امتنع عما حرمه الله منه امتناعاً عن رضاً وتسليم، وهو امتناع يشبه امتناع الصائم وإن كان الفرق بينهما في أن رفض المصاب وسخطه لا يغير من الواقع شيئاً بينما للصائم الحرية في أن يتم صومه احتساباً أو أن يقع في معصية الله فيفطر دون عذر، والامتناع الراضي يكون أقل إيلاماً للنفس مما لو تلقى المصيبة بتذمـر وسخط وغضب.
وهكذا يكون في صيامنـا كل عام في رمضان تدريباً لنا على الالتزام وزيادة لنا في النضج النفسي.
10. الصّيام تهذيب نفسيّ
يتفاوت الناس في فضل الله عليهم، ففيهم القوي وفيهم الضعيف، وفيهم الغني وفيهم الفقير، وفيهم صاحب الجاه والسلطان، وفيهم الشخص العادي الذي لا سلطان له؛ وعندما يعطي الله من فضله أحداً أكثر من غيره، قد ينسى هذا الإنسان أن قدرته وقوته، أو غناه أو سلطانه، إنما هو فضل من الله وامتحان واختبار له، أيشكر أم يكفر هذا الفضل، فإذا ما نسي ذلك غرته قدرته، وغره ماله، ودعاه ذلك إلى أن يتكبّر ويتجبّر على الآخرين، ناسياً قدرة الله عليه، وأن الله هو الجبار، وهو القاهر فوق عباده.
وفي رمضان، يصوم المؤمن، ويمضي الساعات الطويلة بلا طعام ولا شراب، فيشعر بشيء من الضعف في قوته، ويشعر بالحاجة إلى الطعام والشراب، ويسره أن تغيب الشمس، حتى يتمكن من أن يأكل ويشرب من جديد.. إن الصائم يستشعر بهذا ضعفه البشري، فيقل اغتراره بقوّته، وتتطهر نفسه من نزعة التجبر والعلو في الأرض، إذ كيف يتجبر وهو لم يصبر دون طعام وشراب أكثر من ساعات؟ ولعل هذا من الفوائد النفسية الهامة للصيام، لأنه يُرجع المغرور إلى الواقع، ويخلصه من عقدة التفوق والعلو التي أفسدت عليه نفسه.
كما أن الصوم، بما يترك في نفس الصائم من إحساس بالضعف، والحاجة إلى لقمة طعام، وإلى جرعة ماء، هذا الصوم يجعل للآيات الكريمة، التي وعدت المؤمنين في الجنة: الطعام والشراب، ضمن ما وعدتهم به من نعيم، يجعل لها أثراً كبيراً في النفس، أكبر مما يكون لو أن الإنسان الذي أنعم الله عليه، قد أمضى عمره كله دون أن يجوع أو يعطش، فكما أن الصحة تاج على رؤوس الأصحاء، لا يراه إلا المرضى، فإن الطعام والشراب نعمة من الله، لا يعرف قدرها إلا من جاع وعطش.
11. الفِطْر على التَّمْر
روى أبو داود والترمذي والدارقطني والبيهقي والحاكم في مستدركه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "كانَ رَسولُ اللّهِ ﷺ يُفطِرُ على رُطَباتٍ قَبْلَ أنْ يُصَلِّيَ، فإنْ لم يَكُنْ رُطَباتٌ، فتَمَراتٌ، فإنْ لم يكن تَمَراتٌ حَسَا حَسَواتٍ من ماءٍ".
كما روى الترمذي والبيهقي والحاكم في مستدركه وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه وله شاهد صحيح على شرط مسلم" عن سلمان بن عامر الضبي عن النبي ﷺ قال: "إذا أفطَرَ أحدُكم فليُفطِرْ على تَمرٍ، فإنْ لم يَجِدْ فليُفطِرْ على ماءٍ؛ فإنَّهُ طَهورٌ".
والرُّطَب هو التَّمْر الناضج الطازج، والرسول ﷺ كان إذا صام في موسم الرُّطَب في الصيف أفطر على رُطبات وفي غير موسمه أفطر على تمرات، فإن لم يجد الرُّطَب أو التمر أفطر على الماء. وفي حرصه ﷺ على الفطر على التمر مع تفضيل الرُّطَب، وإلا على الماء، ما يشير إلى أن في التمر خاصية لا توجد في غيره، وهي في التمر الناضج في موسمه أي الرُّطَب أقوى وأنفع، وقد شاركت عندما كنت أدرس الطب البشري في جامعة دمشق عامي 1976 و1977 في بحث علمي أجراه أستاذنا الدكتور محمد هيثم الخياط لمعرفة أثر الفطر على التمر على سكر الدم عند الصائم، فوجدنا سكر الدم المنخفض عند الغروب بسبب الصوم يرتفع خلال دقائق معدودة من تناول تمرة واحدة وقبل أن يمر الوقت الكافي لهضمها وامتصاص ما فيها من سكر، وكان الارتفاع في سكر الدم حوالي خمسة وعشرين بالمائة، أما ما تعجبنا منه فهو أن بعض الصائمين الذين كان سكر دمهم مرتفعاً فوق الحد الأعلى الطبيعي رغم صومهم أي كانوا مرضى بالداء السكري، انخفض سكر دمهم بشكل واضح وخلال دقائق قليلة من تناولهم لتمرة واحدة عند أذان المغرب. وكان أن طلبنا من عدد من زملائنا أن يحضروا إلى القسم المخبري في الجامعة صائمين على الريق ذات صباح بعد رمضان، وأخذنا عدة عينات من دمائهم: واحدة قبل أن يتناولوا التمرة ثم عدة عينات بفواصل زمنية بعد أن تناول كل منهم تمرة واحدة، وقمنا بمعايرة السكر والإنسولين في دمائهم.. فوجدنا الإنسولين يتضاعف عدة مرات خلال دقائق من تناول التمرة وفي الوقت نفسه يرتفع سكر الدم عندهم بنفس السرعة، وهذا يعني أن تمرة واحدة رفعت سكر الدم المنخفض ورفعت معه الإنسولين ليستفيد الجسم من ارتفاع السكر، كما فسر ذلك انخفاض سكر دم السكريين الذين أفطروا على تمرة، لأن الإنسولين يدخل السكر إلى الخلايا لتنتفع به وبالتالي يخفض مستواه في الدم. وكان تفسير أستاذنا لارتفاع السكر الفوري عند تناول التمر بأنه ناتج عن فعل هرموني مثل فعل هرمون الغلوكاكون الذي يرفع سكر الدم من الجسم نفسه حتى دون تناول أي سكر، ولعل هذا يفسر لنا كيف كان يكتفي الجندي المسلم في جيش العسرة بتمرة يمصها قليلاً ثم يخبئها ليمصها من جديد عندما يشعر بالجوع مرة أخرى لأن الطعام معهم كان قليلاً جداً.
هذه دراسة تحتاج من الباحثين المسلمين أن يعيدوها وينشروها وربما أن يدرسوا أثر الرُّطَب والتمر عموماً مع الماء على مزاج المرأة عند الولادة وبعدها، حيث تصاب الكثيرات بكآبة المزاج في الأيام التالية للولادة، وحوالي سدسهن يصبن بمرض الاكتئاب النفسي الذي يحتاج للعلاج الطبي الفعال، وقد أشارت الآيات الكريمة التي تحدثت عن ولادة مريم لعيسى عليه السلام إلى أكل الرُّطَب وشرب الماء ساعة الولادة وأثره في المزاج حيث تقر عين الوالدة ولا تحزن، فقد قال تعالى: ﴿فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)﴾ [مريم: 23 - 26] والسَّري جدول ماء.
ولعل الدراسات تجرى على الرُّطَب أو التمر الجديد لأن حرص النبي ﷺ على الفطر على الرُّطَب إن وجد وكذلك تشجيع عيسى عليه السلام لأمه لتأكل رُطَباً جنياً مما يشير إلى أن التمر يفقد هذه الخواص إن كان قديماً.
تعليقات
لا توجد تعليقات بعد
تعليقك هنا