المقالات
الأزواج المشغولون
Whatsapp
Facebook Share

الأزواج المشغولون

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

يرى الكثير من علماء النفس المعاصرين أنَّ الطفل يتعلَّق بأمّه الّتي تربيه لأنّه يشعر وهو بقربها وفي حضنها بالأمان، وقد أثبتت التّجارب والدراسات ذلك، فالطفل المحظوظ بأم حساسة لإشاراته وتفهم ما يحتاج إليه، والمستجيبة له كلّما ناداها، والّتي تغمره بحبها وحنانها، هذا الطفل يعيش منذ ولادته وطيلة سنواته الأولى في فردوس من الأمان والطمأنينة، وكلّما كبر زادت مساهمة الأب في إشعار الطفل بالأمان، فدور الأب في حماية الطفل لا يحتاج إلى إثبات.

 

يكبر الإنسان وهو يتمتّع بالأمان بين والديه، لكنّه عندما يصبح كبيراً مثلهما ويستقلّ نفسيّاً عنهما، وبعدها يستقلّ ماليّاً وفي السكن وفي تحمّل مسؤوليّة أفعاله كاملة وحده، عندها يشعر أنّه صار خارج الحصن الّذي كان يشعر بالطمأنينة والسّكينة فيه، فيبحث عن مصدر بديل للأمن يسكن إليه، ولا يجد بديلاً خيراً من شخص من الجنس الآخر يبادله الحب والرّحمة، وهكذا يسكن الزّوج إلى زوجته الحبيبة، وتسكن الزّوجة إلى زوجها الحبيب، لذا يرى علماء النفس أنّ الحب بين الجنسين إنّما هو بحث عن حضن جديد دافئ وصدر رحيم آخر يجد فيه الإنسان من الجنسين ما فقده من الشعور بالأمن عندما استقلّ نهائيّاً عن والديه.

 

إذن الإنسان لا يتزوَّج من أجل إشباع رغبة جنسيّة، أو من أجل إنجاب الذّريّة، أو لضمان سند مالي أو للحصول على من يخدمه ويرعاه، إنّه يتزوّج من أجل شيء أهم وأكبر، ليس تحقيق هذه الغايات إلّا طرقاً إليه، إنّه السكن النفسي والشعور بالأمن والأمان، وإشباع الحاجات الاعتماديّة للنفس البشريّة الّتي لن تخلو منها طيلة حياتها، إشباعاً يختلف عن إشباع الطفولة، من خلال علاقة نديّة متكافئة بين بالغين راشدين مستقلين، يعتمد كلّ منهما على الآخر وليس كما كان يعتمد على والديه دون أن يعتمدا عليه عندما كان طفلاً.

 

وبالطبع لا يتحقّق الأمان والسكن النفسي لأي من الزّوجين بمجرَّد عقد الزّواج، إذ لا بدَّ للزّواج من أن يكون حقيقة واقعة ومجسَّدة في حياة زوجيّة يوميّة قائمة على المودَّة والرّحمة المتبادلتين، ولا بدّ لذلك من حدّ أدنى من الصحبة ومن حضور كلّ من الزّوجين في حياة الآخر، وكذلك الأمر بالنسبة للأطفال الّذين لن يشعروا بالأمان ما لم تكن الأم ويكن الأب حاضرين في حياتهم حضوراً قائماً على الحب والرّحمة.

 

والحضور المطلوب من الزّوج والأب ليس مجرَّد الحضور البدني حيث يمضي الرّجل في بيته أغلب وقته بعد العمل، إنّما هو الحضور في حياتهم من خلال اهتمامه بشؤونهم وهمومهم، ومن خلال علاقة شخصيّة حميمة تربطه بزوجته وتربطه بأطفاله. فكم من زوج وأب حاضر غائب، هو معهم ببدنه لكنَّه في عالمه الخاص، ويرى أنّه طالما جاء لهم بالطعام ومستلزمات الحياة الماديّة فقد أدّى ما عليه، كريم معهم بالمال وضنين عليهم بالعواطف والاهتمام الشخصي.

 

جاءتني ذات يومٍ شابّة جامعيّة تستشيرني في مشكلة عاطفيّة؛ لقد تعلّقت منذ بداية المرحلة الثانويّة برجلٍ ليس كفؤاً لها أبداً لا من حيث الثقافة إذ الفارق بينهما رهيب، ولا من حيث المال ولا الجمال ولا العمر، إضافة إلى أنّه متزوِّج ولديه أطفال ومن المستحيل عليه أن ينفق على زوجة ثانية، كان تعلُّقها به شديداً رغم كلّ هذا، وكانت محظوظة بالفعل لأنّ هذا الرّجل كان يكنُّ لها مشاعر طيبة ويحرص عليها إذ لم يستغلّها ولم يستغل تعلّقها به.

 

وكان السؤال: لِمَ تتعلّق هذه الفتاة الجميلة الجامعيّة برجلٍ هذه حاله؟ 

 

وكان الجواب واضحاً: إنّ أباها كان "حاضراً غائباً" في حياتها، كان يمضي كلّ وقته بعد دوامه كموظف حكومي في البيت، لكن منشغل باهتمامات تملأ وقته وليس حريصاً على تكوين علاقة شخصيّة مع أفراد عائلته، لقد كانوا جميعهم الأم والأولاد يسكنون معه ولا يسكنون إليه، لأنّه لم يكن مهتمَّاً بهمومهم ومشكلاتهم، ولم يكن يشعرهم بحبّه وحنانه، ولم تكن ابنته الشّابة تشعر بأي نوع من الصداقة معه، ولم يسبق لها أن سمعت كلمة إعجاب أبوي واحدة منه تطمئنها على أنوثتها المتفتِّحة، لذا بحثت عن الحب خارج البيت، وتمسّكت بأوَّل رجل لمست عنده الحب.

 

إذن ليست المشكلة هي قضاء أطول وقت في البيت ومع أفراد العائلة، حيث كثير من الأزواج والآباء حاضر غائب ليس له وجود حقيقي في حياة الزّوجة والأولاد رغم أنّه لا يسافر أبداً.

 

إنّ نوعية الوقت الّذي يمضيه الرّجل في بيته هي الأهم من كميته وطوله.. إنّ وقتاً غير طويل يمضيه الزّوج المشغول مع زوجته يستمع إلى همومها وإلى شعورها بالعبء الثّقيل الملقى على عاتقها وهي تتدبّر شؤون العائلة وحدها تقريباً، هذا الوقت القليل يستمع فيه إليها ويواسيها بكلمة طيِّبة ويشكرها بدعوة صالحة وقبلة وضمّة إلى صدره الحنون، هذا الوقت القصير يعوّضها عن الكثير طالما أنَّها تدرك أنَّه مشغول في السعي على الرزق من أجلهم، أو في الوفاء بمتطلبات منصبه كدبلوماسي أو عسكري أو غير ذلك، وطالما أنّه لا ينفق الساعات الطوال كلّ يوم يدخّن الشيشة ويتبادل الأحاديث مع أصحابه بينما زوجته تكافح وحدها في إدارة شؤون البيت وتدريس الأطفال وحلّ مشكلاتهم، وربّما دفع فواتير الهاتف والكهرباء.

 

ومهما كانت أعباء الزّوج المشغول في تجارته أو مهماته الحكوميّة فلا بدَّ أنّ لديه أوقات راحة وأيّام عطلة يعود فيها إلى بيته، وعليه أن لا ينسى أبداً أهميّة حضوره في حياة زوجته وحياة أبنائه وبناته.

 

إنّه بالنّسبة لأطفاله نموذج للرجولة، منه يتعلَّم أبناؤه كيف يكونون رجالاً، وبخاصّة كيف يتصرَّفون حين يصبحون أزواجاً وآباءً، ومن الأب يتلّقى الصبي الدّعم والتّثبيت والتّطمين على رجولته المتفتحة كي يكبر وهو يشعر أنّه واحد من الرّجال، يتباهى بقوّته ورجولته وينتمي إلى جنس الرّجال انتماءً واثقاً يحميه من أن يتوّجه جنسيّاً توجهاً شاذاً كما لو كان أنثى. وحضور الأب ضروري لابنته لأنّها منه تكتسب بعض أنماط السلوك الّتي لا تكون واضحة إلّا عند الرّجال عادة وتكون لازمة لتكامل شخصيتها كالحزم والتّروّي عند الأزمات مثلاً.. وضروري لها لتتعرّف من خلاله على جنس الرّجال ولكي يعجبها فيه أشياء ولا يعجبها فيه أشياء أخرى فيصبح لديها القدرة على تحديد الصفات الّتي تريدها في زوج المستقبل، ومن حضوره في حياتها وحياة الأسرة ترى فيه نموذجاً للزّوج ونموذجاً للأب، وترى من خلاله نموذجاً للحياة الزّوجيّة يكمل ما تتعلّمه من أمّها، كما إنّ تعلّقها به وشعورها بحبه لها يوازن انجذابها وتعلّقها بأمّها في السنوات الأولى من العمر ممّا يشكّل أساساً هاماً لتوجهها جنسيّاً التّوجه الطبيعي السّوي.

 

كثيرون هم الآباء الّذين لا يدركون أهميّة حضورهم في حياة أطفالهم، وأهميّة وجود علاقة شخصيّة بينهم وبين أطفالهم لبثّ روح الأمان فيهم وضمان نموهم نفسيّاً واجتماعيّاً نموَّاً سويَّاً.

 

أمّا حاجة الزّوجة إلى حضور زوجها في حياتها حضوراً عاطفيّاً كي تشعر بالأمن والطمأنينة والسكن النفسي فإنّها حاجة لا يغني عنها شيء آخر، فكما أنّ الرّجل يجد سعادته ويحقّق ذاته من خلال الإنجاز في حياته سواء كان هذا الإنجاز ماليّاً أو علميّاً أو سياسيّاً وكذلك من خلال الفوز بما تحبه نفسه من الجمال الأنثوي، فإنّ سعادة المرأة الكبرى وبخاصّة إن كانت متفرّغة للزّوج والأطفال، سعادتها وتحقيق ذاتها متركزان في نجاحها في علاقتها بالرّجل الّذي أحبّته وتزوّجته، وفي شعورها أنّه يحبّها وأنّها غالية عليه وذات قيمة كبيرة في نظره وأنّها صديقته الحميمة في هذه الحياة وشريكته الوفيّة في بناء أسرة تتعاون معه في تربية أطفالها التّربية المثاليّة الّتي تحلم بها كلّ أم صالحة واعية، فتشعر بنعمة الأمومة سواء من حيث الإنجاب حملاً وولادة، أو من حيث التنشئة لنفوس صالحة تباهي بها الأم، ولا تستحي أن تقول هؤلاء أولادي.

 

إنّ حضور الزّوج في حياة زوجته ضروري لهذا كلّه، فإن كان معذوراً حقّاً في التّغيّب في المهمات والأسفار فليس معذوراً حقاًّ في التّغيُّب يوم العطلة في نهاية الأسبوع أو بين الأسفار والمهمات.

 

وحتّى لو كانت الزّوجة تعيش مع أسرة الزّوج ولا تشتكي من الوحدة وسط عائلة كبيرة فإنّ نوعاً من الصّحبة ومن المحبّة لا يمكن الحصول عليه إلّا من زوج محب، وليس هنالك رجل واحد كامل الرّجولة يرضى أن ينوب عنه رجل آخر في تقديم هذه الصحبة لزوجته، وإنّ الأنثى عموماً تقع الكلمة الحلوة والرّومانسيّة في نفسها بموقع حساس جداً ومؤثر إلى أبعد حد إن كان قلبها خاليّاً من رجل تحبّه، وقد تنساق الزّوجة الّتي لا تسمع كلمات الحب من زوجها ولا تحظى بصحبته الممتعة ولو لساعات كل أسبوع، قد تنساق وراء مُغازِل يسَّمِّعها بالهاتف حلو الكلام الذّي يبخل به على زوجته، ويكون فيه كاذباً يسعى لإيقاعها كي يحصل عليها ويتمتَّع بجسدها ويضيفها إلى انتصاراته، هذه الزّوجة المحرومة قد تنساق وراء صداقة كهذه وهي تريد إكمال ما ينقصها فحسب ولا تريد ترك زوجها وأطفالها، لكن قلب المرأة لا يتسع إلّا لرجل واحد في الوقت الواحد، وإذا ما تسلّل إليه عابث أو زميل عمل أو قريب فإنّ الزّوج يخرج منه رغماً عنها وتتبدّل مشاعرها نحوه دون إرادة منها، بل على الرغم من مقاومتها لذلك وحرصها على بقاء حبها لزوجها، لكن لا مكان لرجلين مجتمعين في قلب امرأة، وكم من أسر هدمت واطلعت على قصّة تفككها الحزينة وتشرُّد الأطفال بسبب غياب الزّوج العاطفي من حياة زوجته ودخول آخر على الخط.

 

ليس المال والهدايا الكثيرة كلّ شيء، إنّ الحب والصحبة هما مصدر الأمن للزّوجة وللأولاد، وليس أمام الأزواج المشغولين إلّا أن يضعوا زوجاتهم وأبناءهم وبناتهم على جدول أولوياتهم، وأن لا يتساهلوا في ذلك أبداّ، وأن يتذكّروا أنّ نوعيّة الوقت الّذي يقضونه مع عائلاتهم أهم كثيراً من كميته، وأنّ دقائق يقضيها الأب على انفراد مع كل ولد من أولاده ذكراً كان أو أنثى ولو مرة في الأسبوع تمتِّن العلاقة وتجعلها شخصيّة وحميمة وتملأ قلوب أولاده راحة وأمناً وسكينة، أمّا الزَّوجة فتحتاج إلى السّاعات الخاصّة بها، يسمع إليها ولو مجرّد السماع، ولا يستسخف حديثها الّذي غالباً ما يكون حول ما واجهها من مشكلات وهو غائب عنها، ولا يتصوَّر أنّ عليه إيجاد الحلول لهذه المشكلات، إنّما المطلوب هو الاستماع والتّبصير لا أكثر، ثمّ الانتقال إلى تبادل المشاعر والمعاشرة الزّوجيّة أو قضاء وقت رومانسي سويّة من دون الأطفال في البيت أو خارجه.

 

إنّ المهم هو أن لا ينسى الزّوج المشغول أسرته وأن يعطيها نصيباً من وقته مهما كلّف ذلك، وأن يتذكّر أنّها لا تقلّ أهميّة عن عمله.

تعليقات

لا توجد تعليقات بعد


تعليقك هنا
* الاسم الكامل
* البريد الإلكتروني
* تعليقك
 

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة