- الرئيسية
- مقالات
- نساء ورجال
- الكذب بين الأزواج
الكذب بين الأزواج
الكذب بين الأزواج
الأصل في التّواصل بين الزّوجين الصّدق والأمانة لأنّه لا ثقة بلا صدق، ولا أمان ولا سكن للنّفس بلا ثقة بالزّوج أو الزّوجة، لكن قد يلجأ أحد الزّوجين إلى الكذب على الزّوج الآخر إمّا أحياناً ويكون لذلك دواعيه، وإمّا غالباً وعندها تكون المشكلة خُلُقيّة وفي صميم تكوين شخصيّة هذا الكذّاب، وهؤلاء الّذين يغلب الكذب على أحاديثهم هم عادة شخصيّاتهم فاسدة (سيكوباثيّة) متمرّدة على المجتمع والدّين، ولا تشعر بالذّنب إذ كَذَبَتْ ولا بالحياء إذ كُشِفَتْ... وهؤلاء لا دواء لهم إلّا أن يشاء الله هدايتهم فيعود الخوف من الله إلى قلوبهم ليجعل منهم بشراً صالحين مرّة أخرى.
قد يكذب أحد الزّوجين على الآخر لأنّه يشعر بالضّعف ويتهرّب من مسؤوليّته عن تصرفاته تماماً كما يكذب الطّفل الصّغير تجنّباً للعقوبة واللّوم، وهذا النّوع من الكذب إذا اكتشفه الطّرف المخدوع فإنّه يفقد ثقته بالزّوج الكاذب، وحتّى لو تفهّم أسباب كذبه فإنّه يفقد إعجابه به لأنّ الضّعف والهروب من المسؤوليّة شيء لا يثير الإعجاب أبداً، إذ النّفوس مفطورة على الإعجاب بالقوّة، بما فيها القوّة الّتي تتجلّى من خلال تحمّل الإنسان لعواقب أفعاله، وهنا يكون الصّدق شجاعة وقوّة وثقة بالنّفس إن هو ترافق مع حسن النّيّة والاعتراف بالخطأ لا المكابرة وإنكار المسؤوليّة، وعندها يكون الصّدق مقوّيّاً للعلاقة الزّوجيّة ومرسّخاً لها وللأمن النّفسي فيها.
وقد يُعبّر الكذب عند أحد الزّوجين عن إحساسٍ عميقٍ بالنّقص والدّونيّة، يعوّض عنه الإنسان باختلاق قصص لأحداث يدّعي أنّها وقعت له، يكون فيها بطلاً وشخصاً مهمّاً، ويبدو وهو يحكيها مؤمناً بها وبأنّها وقعت فعلاً، وتكون الحكاية محبوكة جيّداً وممتعة ولا عيب فيها إلّا أنّها كذب مِن أولها إلى آخرها، يكذب فيها الإنسان على نفسه وعلى الزّوج الآخر وعلى الأهل والأصحاب كي يشعر هو ويجعلهم يشعرون أنّه شخص مهمٌ أو موهوب، وتسمّى هذه العلّة في الطبّ النّفسي "الكذب التّخيّلي pseudologia fantastica".
وهذا النّوع من الكذب يجلب المزيد من الإعجاب من الطرف المخدوع، حتّى يأتي اليوم الّذي يفطن فيه إلى مقدار الكذب في هذه الحكايات، وعندها يضعف الإعجاب ويقلّ الاحترام وتُفْقَد المصداقيّة.
أمّا الزّوجة أو الزّوج صاحب الشّخصيّة المسرحيّة histrionic personality الّذي يجعل من الأحداث اليوميّة دراما مثيرة مليئة بالعواطف والانفعالات، فإنّه ميّال للكذب من خلال المبالغة والتهويل بسبب حرصه على جعل الأمور دراميّة تلفت الأنظار وتُؤثّر في الآخرين، وهؤلاء الأشخاص في البداية يكسبون الإعجاب، إلّا أنّ من يعيش معهم ويتبيّن له مقدار المبالغة والتّهويل في أحاديثهم يقلّ احترامه لهم ويفقد إعجابه بهم، ولهذا أثره في الحياة الزّوجيّة.
أحياناً تكون الخيانة الزّوجيّة هي الدّافع للكذب وإبقاء ما هو سرّ سرّاً خشية المشكلات، بل قد لا يكون هنالك خيانة إنّما زواج أحلّه الله، لكن ما يتوقّعه الزّوج من ثورة زوجته الأولى ومن صراع ونزاع معها يجعله يكذب ليخفيَ سرّه.
وهذا مثال يوضّح كيف أنّ الغيرة الزّائدة لدى أحد الزّوجين يمكن أن تدفع الزّوج الآخر إلى الكذب...
والكذب قد يكون ردّ فعلٍ على زوجٍ من طبيعته الشّكّ والظّنّ، وإن كان من الحكمة الكذب أحياناً مع مثل هذا الزّوج وذلك للحفاظ على الحياة الزّوجيّة، لكن أفضل وسيلة للتّعامل مع شخص ميّالٍ للشّكّ الوضوح وتجنّب كلّ ما يريب ويثير شكّه، والحياة مع مثل هذا الشّخص صعبة وبخاصّة عندما يَتّهم الزّوج الآخر بالكذب ظلماً، إذ يتألّم الإنسان أشدّ الألم عندما يتّهمه بالكذب الشّخص الذّي يجب أن يثق به وأن يصدِّقه وإن كذّبته الدّنيا كلِّها. فعندما يفقد الإنسان مصداقيّته عند أقرب النّاس إليه ولا يكون قد ارتكب كذباً أو خداعاً يستحقّ عليه هذا الجزاء، عندها يشعر الإنسان أنّه فقد السّند النّفسي في الحياة، وعندها تفقد الحياة الزّوجيّة الكثير من السّكن النّفسي الّذي جعلها الله من أجله.
إنّ الإتّهام في المصداقيّة ظلماً يثير أشدّ مشاعر الغيظ ممّن يتّهمنا، لأنّه يجعلنا في موقع المُتّهم البريء المظلوم الّذي قد لا يكون لديه إثبات لبراءته إلّا أيمان يؤكّد بها صدقه، لكن من يشكّ لا تزيده الأيمان إلّا شكّاً واتهاماً.
والكذب في سياق أيّة علاقة إنسانيّة بما في ذلك الحياة الزّوجيّة يعكس في الغالب الشّعور بالاستخفاف بالطّرف الآخر المكذوب عليه، لذلك يثور مَن يكتشف أنّه مخدوع أوّل ما يثور لكرامته وقدره بغضّ النّظر عن موضوع الكذبة بحدّ ذاته.
لكن قد يكون الكذب أحياناً رحمة وتلطّفاً بالمكذوب عليه لأنّ من الحقائق ما هو مرٌّ ومن الصّراحة والصّدق ما يقطع أواصر المحبَّة والمودّة، لذلك أباح الإسلام الكذب بين الزّوجين إن كان الصّدق ضاراً ومؤذياً للمودّة بينهما، وأباحه عند محاولة الإصلاح بين المتخاصِمَين وذلك لتأليف قلبيهما وإعادة المودّة والرّحمة إلى العلاقة بينهما.
وهذا يرينا حرص الإسلام على العلاقات الإنسانيّة الرّحيمة والودودة بين المؤمنين، إذ أباح من أجل الحفاظ عليها الكذب وهو من أبغض الرذائل وأشدّها تناقضاً مع الإيمان، لكن هذا لا يعني أن تقوم حياتنا الزّوجيّة على الكذب، إنّما يعني أن لا نجرح بعضنا بعضاً بصدقٍ وصراحةٍ ضارتين، كالّتي تسأل زوجها هل هي أجمل من فلانة أم فلانة أجمل منها، ويكون الصّدق أنّه يرى الأخرى أجمل منها، لكن الكذب هنا هو الأَوْلى، وأن يدّعي أنّ زوجته في عينيه أجمل النّساء هو الحكمة، صادقاً كان أم كاذباً، والكذب هنا رحمة وتلطّف وحرص على مشاعر الطّرف الآخر، وفيه تقوية لشعوره بقيمته ورضاه عن نفسه، وفيه إسعاد له، إذ ليس المهم أن يكون الإنسان أجمل النّاس، بل المهم أن يكون راضياً عن جماله بحيث يقلّ خوفه من منافسة الآخرين له على قلب محبوبه....
هذا مثال يمكن القياس عليه يكون فيه الكذب فضيلة والانخداع حكمة، ألم ينهنا الله عن البحث والتّقصّي عن أشياء إن ظهرت لنا ساءتنا وحرمتنا السّعادة والرّضا..
لا بدّ لنا في هذه الحياة من شيء من الانخداع حتّى نستطيع العيش بهناء، إذ لو لم نخدع أنفسنا ونتناسى حقيقة أنّنا معرّضون للموت في أيّة لحظة ما كنّا نقدر على الابتسام والتّفاؤل والتّخطيط للمستقبل والعمل له.
ولحماية الحياة الزّوجيّة من الحقائق المرّة الّتي قد لا تستسيغاها الأنفس لا بدّ من الكذب في بعض الأمور، وهو كذب حميد مفيد، ولعلّ الكذب فيما يخصّ ماضي الزّوج وماضي الزّوجة من أهمّ أنواع هذا الكذب المطلوب.
في المرحلة الرّومانسيّة من الزّواج يميل كلّ من الزّوجين إلى إخبار الآخر بكلّ شيٍ عن نفسه، وقد يرى أحدهما -وبخاصّة الزّوجة- أنّ كتمان أي شيءٍ خيانة تتنافى مع الحبّ والإخلاص والوفاء، فيروي للطّرف الآخر كلّ شيء بكلّ براءة وحسن نيّة، لكنّه يندهش بعدها بشهور أو سنين عندما يكتشف أنّ الطّرف الآخر ينظر إليه من خلال ما عرف عن ماضيه، فلا يثق به أو لا يثق بحبّه له، أو يذكّره دائماً بماضيه وما فيه من أخطاء، إلى غير ذلك ممّا ينغّص على حياتهما الزّوجيّة، وممّا يقلّل إعجاب الآخر به ويشوّه صورته لديه، إذ الإعجاب يعتمد على الصّورة المشرقة الّتي تكون لأحد الزّوجين في ذهن الآخر، فإذا ما شوّهها الماضي مهما كان بريئاً تعذّر الإعجاب وقلّ الحبّ.
عندما يسأل أحد الزّوجين الآخر عن ماضيه يجب الكتمان والإنكار إلّا لأمرٍ لا بدّ لهذا الزّوج من اكتشافه في المستقبل، وعندها يجب التّصريح ودخول العلاقة على هذا الشّرط، والزّوج أو الزّوجة الّتي تنقّب عن الماضي إنّما هما يسألان عن أشياء إذا أبديت لهما ساءتهما... ويجب أن لا ينخدع أحد الزّوجين بما يلمسه من تفهّم وتفتّح وسعة أفق لدى الزّوج الآخر بحيث يخبره عن كلّ ما في ماضيه، إذ كثيراً ما يكون هذا التّفهّم ظاهريّاً خادعاً، وهذا لا يعني أن تقوم الحياة الزّوجيّة على الغشّ، إنّما الفطرة البشريّة قائمة على الانجذاب بين الجنسين، وإذا ما خفق قلب فتاة لابن عمّها أو ابن جيرانها، ثمّ تزوّجت غيره وحدّثته عن مشاعرها الّتي أحسّت بها ذات يومٍ، فقد لا يصدّق زوجها أنّ هذه المشاعر كانت عابرة وأنّها نسيت ذاك الحبيب الّذي أدخل حبّها له البهجة على بعض أيّام مراهقتها، والأمثلة المشابهة كثيرة.
ثمّ ممّا يجب كتمانه والكذب فيه أسرار عائلة كلّ من الزّوجين الّتي لا فائدة من كشفها، إنّما هي تقلّل من إعجاب الطّرف الآخر بعائلة الزّوج أو الزّوجة. والإعجاب بعائلته أو عائلتها يقوّي الإعجاب به أو بها، لأنّ الزّواج ليس علاقة بشخصٍ واحدٍ، إنّما هو علاقة بعائلة الزّوج أو الزّوجة أيضاً، وكلّما كانت هذه العائلة محلّ إعجاب كلّما كان الإنسان أكثر سعادةً بهذا الزّواج.
وممّا يلزم فيه الكذب بين الزّوجين المشاعر السّلبيّة الّتي لا بدّ أن تُوجَد لدى أحدهما نحو الآخر أحياناً.
فمع أنّ الكلام النّظري أنّه إن أساء إلينا أحد علينا أن نكره أفعاله لا أن نكرهه هو، يبقى الواقع أنّ المشاعر تنبع من اللا شعور، وهي انفعالات لا إراديّة لا يمكنها الفصل بين الإساءة والمسيء..
لذا قد يمرّ الإنسان بمشاعر كراهيّة أو غيظ وحقد أو رغبة في الانتقام من الزّوج أو الزّوجة نتيجة تأثّره بإساءة منه، وعندها عليه أن لا يصدّق وأن لا يعبّر عن هذه المشاعر، بل عليه أن يخبر الطّرف الآخر أنّه متأثّر ومتألّم ومنزعج ممّا حدث، وذلك ليشعر الطّرف الآخر بمعاناته لعلّه يصلح أو يبيّن عذره، لكن أن يكون صادقاً فيخبره بمشاعره الحاليّة الّتي قد تبلغ حدّ الرّغبة في أن يراه ميّتاً مثلاً فذلك الخطأ بعينه، لأنّ هذه المشاعر عابرة، ومشاعر الزّوجين تجاه بعضهما تتميّز عادة بأنّها مشاعر قويّة سلبيّة كانت أو إيجابيّة، ففي لحظات الحبّ تكون المشاعر الإيجابيّة عظيمة ومركّزة وعنيفة، وفي حالات الغيظ والألم تكون المشاعر السّلبيّة شديدة جداً لأنّ ظلم ذوي القربى أشدّ غضاضة كما يُقال..
إنّ ارتباط حياة كلّ من الزّوجين بالآخر يجعل هذا الآخر شخصاً غير عاديٍّ بالنّسبة له، وبالتّالي تكون العواطف تجاهه شديدة بنوعيها الإيجابيّة والسّلبيّة.
المشاعر السّلبيّة تُنسَى، لكن إن هي أُفْصِحَ عنها فإنّ أثر هذا الإفصاح المؤذي للطّرف الآخر والمدمّر للحبّ بينهما يدوم طويلاً، وقد لا يُنسَى أبداً.
إنّ التّواصل النّاجح بين الزّوجين الّذي لا بدّ منه للسّعادة الزّوجيّة ليس كما كان يُظَنّ أي أن يُعبِّرَ كلّ منهما عن كلّ ما في نفسه نحو الآخر، بل هو التّواصل الحكيم المحسوب الّذي يتمّ فيه معالجة المشاعر السّلبيّة دون التّعبير عنها، إنّما التّعبير يكون عن مشاعرنا نحن وتأثّرنا بتصرّف الطّرف الآخر، كأن يكون تصرفه جعلنا نحسّ أنّنا مُهانين أو غير محبوبين أو غير ذلك، نُعبِّر له عن آلامنا النّفسيّة النّاتجة عن الإساءة ولا نعبِّر عن مشاعر الكراهيّة والرّغبة في الانتقام المُصاحبة لهذه الآلام، وهذا ما وصل إليه علماء التّواصل وصاروا ينصحون به من أجل حياة زوجيّة سعيدة.
نعم صاروا ينصحون بالصّدق المحسوب لا الصّدق المطلق بين الزّوجين، أي صاروا ينصحون بما نصحنا به نبيّنا محمّد ﷺ من اللّجوء إلى الكذب أحياناً إن وجدنا المودّة والرّحمة ما بيننا مهدّدة بالحقائق المرّة المؤلمة.
تعليقات
لا توجد تعليقات بعد
تعليقك هنا