المقالات
الأمن والسكن النفسي في الحياة الزوجية
Whatsapp
Facebook Share

الأمن والسكن النفسي في الحياة الزوجية

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

قبل أربعة عشر قرناً نزلت آيةٌ كريمةٌ تقول: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)﴾ [الروم: 21]. ومع أنَّ التّكاثر يقوم على الزّوجيّة، أي على كون البشر جنسين: رجالاً ونساءً، فإنَّ الخالق العظيم يلفت أنظارنا في هذه الآية الكريمة إلى السّبب الأهمِّ للزّوجيّة الّتي يُنَظِّمها عقد الزّواج؛ إنَّه السّكن النّفسيِّ، أي الشّعور بالأمن والمؤازرة والمؤاساة والأنس والطّمأنينة.. وبعد أربعة عشر قرناً من الزَّمان، وبالتّحديد في النّصف الثّاني من القرن العشرين، كَثُرَت الدِّراسات والأبحاث النّفسيّة الّتي تقول وتُؤيِّد بالأدلّة ما تدّعيه من أنَّ الإنسان رجلاً كان أو امرأةً إنَّما يتزوَّج ويرتبط بشخصٍ من الجنس الآخر بحثاً عن الشّعور الممتع بالأمان الّذي كان يجده في حضن أمِّه ثمَّ افتقده عندما استقلَّ بنفسه كفردٍ له ذاتيّته وكينونته وفرديّته. إذن هو الأمن والسّكن النّفسيِّ الّذي من أجله يتعلَّق رجلٌ بامرأةٍ، وتتعلَّق امرأةٌ برجلٍ، يربط كلٌّ منهما مصيره ومسيره في هذه الحياة بالآخر.

 

وقبل أن أخوض في بحث مسألة الأمن والسّكن في الحياة الزّوجيّة من المنظور النّفسيِّ، أوَدُّ أن ألفِت الأنظار إلى أنَّ الآية الكريمة الّتي افتتحتُ بها مقالي هذا لا تقول إنَّ الزَّوجات خُلِقْنَ ليسكُنَ إليهنَّ الأزواج، بل تقول أيضاً إنَّ الأزواج الرِّجال خُلِقوا لتَسْكُنَ إليهم زوجاتهم النِّساء، إنَّ الزَّوجيّة وما تُيَسِّرهُ من المودّة والرّحمة بين الجنسين إنَّما كانت لتُحقِّق الأمن النَّفسيِّ والسّكينة للرِّجال والنِّساء على السّواء. والّذي دعاني إلى أن أُؤَكِّد على هذه الحقيقة هو ميل البعض للظَنِّ أنَّ السّكن النّفسيِّ مطلب للرّجل تُحقِّقه له زوجته دون أن يكون للمرأة المطلب ذاته... والّذي قد يجعل البعض يلتبس عليه الأمر في عصرٍ جهلنا فيه الكثير من أسرار لغتنا العربيّة أنَّ الخِطاب في الآية الكريمة جاء في صيغة المُذكَّر ﴿خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ وقوله تعالى ﴿إِلَيْهَا﴾ قد يجد فيه البعض ما يجعله يظنُّ أنَّ الطّرف المؤنَّث هو الّذي يُسْكَنُ إليه، أي أنَّ الرِّجال يسكنون إلى النِّساء لا العكس.. لكن الأزواج في اللّغة العربيّة جمع "زوج" والزّوج كلمةٌ تُطلَق على الذّكر وعلى الأُنثى، أمّا التّأنيث في كلمة "إليها" فإنَّما يعود على لفظة "أزواج" ولو كان يُراد منها حصر الأمر في الأزواج من النِّساء لقال: "لتسكنوا إليهن".

 

إذن الآية الكريمة تُخاطبنا جميعنا رجالاً ونساءً وتُخبرنا عن الهدف الأكبر من الزّوجيّة في خَلْقِ البشر، وهو أن يكون الرّجل مصدراً للسّكن النّفسيِّ والأمن والأمان للمرأة، وأن تكون المرأة كذلك، مصدراً للسّكن والأمن للرّجل... إنَّه الإشباع المتبادَل لحاجةٍ نفسيّةٍ مُشتركةٍ.

 

لقد خَلَقَ الله الإنسان ليكون خليفةً في الأرض، فأعطاه القدرة على الوعي بوجود ما حوله، وعلى الوعي بوجوده هو ذاته، لقد خلقه نفساً لها ذاتيّتها وكينونتها وفرديّتها، فالإنسان هو الكائن الّذي يقول "أنا" ويُدرِك بوضوحٍ الحدود الّتي تفصله عن غيره من المخلوقات، ويعي استقلاليّته عن غيره، وهو الكائن الّذي يمتاز بأنانيّةٍ رائعةٍ، إنَّه يعمل لحسابه الخاص ويُخطِّط في هذه الحياة من أجل منفعته الشّخصيّة، هذا الكائن ذو الكينونة المُستقلَّة، عليه كي يكون مُستقلّاً أن يُواجه إحساساً بالعزلة والوحشة في هذا الوجود.

 

وإدراك الإنسان لحقيقة أنّه فردٌ عليه أن يواجه مصيره وحده، يُثير في نفسه قلقاً واضطراباً لا يُريحه منهما ولا يُعيد إليه سكينته إلّا الحب، حيث من خلال الحب يتغلّب الإنسان على وحدته بأن يُوسِّع حدود ذاته لتشمل رفيقاً رحيماً به، يقطع رحلة الحياة معه، يُؤنسه فيها ويُعينه عليها، لكنّه في هذا الحب لا يفقد فرديّته وذاتيّته واستقلاليّته، تلك الصِّفات الّتي لا بُدَّ له منها كي يكون أهلاً لدور الخلافة في الأرض.

 

ولَئِنْ كان شفاء الوحشة والعزلة في هذا الوجود يكمُن في الحبِّ والمودّة بين البشر، فإنَّ الزّوجيّة في الخَلْقِ تجعل بالإمكان لهذا الحب أن يَبلُغ أقصى مداه، فالمُتأمِّل في الواقع الإنساني وما فيه من علاقاتٍ بين البشر يجد أنَّ أعظم الحب يكون عادةً بين رجلٍ وامرأة، أي أنَّ المودّة والرّحمة تتحقّق في أكمل أشكالها بين رجلٍ وامرأةٍ أكثر من تحقّقها بين رجلٍ ورجلٍ أو بين امرأةٍ وامرأةٍ. إنَّ الزّوجيّة وما فيها من اختلافٍ في الشّكل وفي الدّور الّذي يُؤدّيه كلٌّ من الرّجل والمرأة في هذه الحياة تلغي أيّ شعورٍ بالمُنافسة بينهما، والمنافسة دائماً تُوَلِّد العَداوة وتُنْقِص من الرّحمة وتُعيق نشوء المودّة.

 

وقد توسّع العُلماء في مفهومهم للرّابطة الّتي تكون بين اثنين من البشر، بدءاً بالأمِّ وطفلها وانتهاءً بالزّوج وزوجته، فوجدوا أنَّ الأمر يتجاوز المفهوم المُعتاد للحبِّ، وصاغوا مُصطلح التّعلُّق أو الارتباط النّفسي attachment، ليصفوا به الحالة الوجدانيّة العاطفيّة الّتي تنشأ بين الرّضيع وأُمِّه وبخاصةٍ من جهة الرّضيع الّذي يتعلَّق بأُمِّه بمجرّد أن يُصبح قادراً على تمييزها عن غيرها من البشر، إذ بعدها لا يأنس لغيرها. وفي البداية كان الظنُّ أنَّ الطّفل يتعلّق بأُمِّه لأنَّها مصدر غذائه سواء بما يرضعه من ثدييها أو ما تُطعمه إياه بيدها، لكن المزيد من البحث والتّجربة على البشر وعلى الحيوانات الّتي فيها بعض الشّبه بالبشر بيّنت أنَّ التّعلُّق إنَّما يكون من أجل الأمن والسّكن النّفسيِّ بالدّرجة الأولى. ثمَ يكبُر الرّضيع، وحوالي السّنة الثّانية من العمر يتوضّح لديه الشّعور بالاستقلاليّة والانفصال عن أُمِّه، أي يتبيّن له أنّه شخصٌ مُستقلٌّ بحدِّ ذاته ومنفصلٌ عن أُمِّه وليس بينهما أيّ حبلٍ سُريٍّ يصل ما بينهما.. لكن تبقى الأمُّ قاعدة الأمان للطّفل ينطلق منها ليلعب ويستكشف ثم ليعود إليها بين الحين والآخر، أو ليلجأ إليها باكياً إن أصابه ألمٌ أو خوفٌ أو إرهاقٌ، فيسكن إليها ويهدأ في حضنها.

 

ويكبر الصّغير وتتعمّق استقلاليّته وتَبلُغ مداها في المراهقة عند البلوغ، وعندها يحسُّ بالحاجة والرّغبة الّتي وُلِدَ بها، الحاجة إلى علاقةٍ عاطفيّةٍ وجدانيّةٍ مع فردٍ آخرٍ من البشر تكون مصدراً للأمن ومَلاذاً يسكُن إليه، وعندها يبدأ الميل إلى الجنس الآخر بالظّهور، ويُصبِح لكلِّ فتىً فتاة أحلام، ولكلِّ فتاةٍ فارس أحلام. 

 

علماء النّفس يرون في هذا الشّوق إلى الارتباط بفردٍ من الجنس الآخر شوقاً للعودة إلى فردوس الأمن والسّكن النّفسيِّ الذي نَعِمَ به الإنسان في طفولته في حضن أمِّه.

 

ويُفسِّر هؤلاء العُلماء ميل الأنثى إلى التعلُّق الحميم العميق غير المُتعدِّد بطبيعة تعلُّقها بأمِّها، حيث التّشابه في الجنس بينهما يجعل الارتباط بينهما على المستوى النّفسيِّ عميقاً، تكون الحدود بين النّفسين (الأم والبنت) قليلة الوضوح والتّحديد، ويبقى ذلك ملحوظاً في صداقات النِّساء أيضاً، أمَّا اختلاف الصّبي عن أُمّه من حيث الجنس فيجعله يُحِسُّ باستقلاليّته عنها بشكلٍ أشد، وقد يُفَسَّر ذلك ميل الرّجل إلى الاستقلاليّة الواضحة حتّى عندما يحبُّ ويتعلَّق بزوجته، إنَّه أكثرُ حِرصاً من المرأة على الحدود الّتي تفصل ما بين الشّخصيَّتين، شخصيّته وشخصيّة زوجته الحبيبة، وقد لا يسمح لهذه الحدود بأن تختلط وتزول إلّا في لحظات الاندماج والالتحام والاتّحاد النّفسي في ذروة اللّقاء الجنسي بين الزّوجين.

 

وعندما درس العلماء العلاقة الّتي تكون بين الطّفل وأُمِّه مَيَّزوا بين ثلاثة أنواعٍ من التَّعلُّق من جهة الطّفل، حيث يتعلَّق الطّفل الّذي أنعم الله عليه بأمٍّ حنونٍ مُستجيبة لاحتياجاته وحسّاسة لإشاراته وطلباته، يتعلَّق بها تعلُّقاً آمناً مُطمئنَّاً فيه يشعر الطّفل بالأمن والطّمأنينة والثّقة بنفسه وبأُمِّه وبالعالم كلّه من حوله، أمّا الطّفل الّذي أمّه تستجيب له حسب رغبتها لا حسب حاجته فيتعلّق بها، لكن تعلُّقه يكون قلقاً مقاوماً إذ هو لا يثق بأنَّها ستكون هناك عندما يحتاج إليها، إنَّها تبقى مصدر الأمن له، لكنّها مصدرٌ لا يُعتَمَد عليه، لكن الطّفل يقاوم ويلحُّ في طلب الحنان والاهتمام من هذه الأم. أمّا النّوع الثّالث فهو التّعلُّق القلق المُتَجَنِّب الّذي يشعر فيه الطّفل أنَّه منبوذٌ، وأنَّه لن يتلقّى الحنان والاهتمام مهما فعل، فيبقى قلقاً ويتّجه نحو الاستقلاليّة قبل أوانها، ويصبح لديه خوفٌ من أيِّ علاقةٍ حميمةٍ مع أيِّ إنسانٍ، لأنَّه بعد أن ذاق مرارة الرّفض والنّبذ المُتكرِّر قرّر ألّا يُعرِّض نفسه لنبذٍ جديدٍ، والضّمان الوحيد لذلك هو ألّا يتعلّق بأحدٍ تعلُّقاً يجعله يتأثّر إن تخلّى هذا الشّخص عنه أو صدّه ورفضه.

 

وقد تبيّن للباحثين أنَّ علاقة الطّفل بأمِّه في السّنوات الأولى من العمر تترك آثارها في نفسه وتَظهر من جديدٍ من خلال نوعيّة الأشخاص الّذين ينجذب إليهم ويتزوّج بأحدهم، وتظهر من خلال التّوقعات الّتي تكون لديه عندما يتزوّج، وبالتّالي مقدار الخيبة عندما لا يحقِّق له الزّوج أو الزّوجة تلك التّوقعات الّتي هي رغبات لم تُشبعها الأمُّ في طفولته وتحلم النّفس في إشباعها من خلال الحبّ والزّواج.

 

والجدير بالذّكر أنَّ هذا التّأثير بالطّفولة لا يكون شعوريّاً، بل يقع فيه المرء غالباً وهو غير واعٍ لدوافعه، ممّا يترك آثاره الّتي قد تكون مُدمِّرةً أحياناً لزواجه.

 

ولئن كان السّكن والأمن هو المطلب النّفسي الحقيقي من الحبِّ بين رجلٍ وامرأةٍ، فإنَّ هذا الأمن وهذا السّكن لا يتحقّقان دون وجود قدر من الالتزام يضمن بقاء المحبوب إلى جانب المحب حتّى عندما يمرُّ حبّهما بالأزمات، ولم تَعرِف البشريّة التزاماً بين المحبِّين خيراً من الزّواج، فالقرابة تفرض على الأمِّ التزاماً نحو رضيعها، لكن ما الّذي يفرِض الالتزام على المحبِّين غير عقد الزّواج الّذي يُعمِّق الإحساس بالأمن لدى الرّجل والمرأة على السّواء. فالأمن هدفٌ للعلاقة بين الجنسين، لكن الزّواج يضمن لهما أن يتحقّق لكلٍّ منهما هذا الأمن.

 

إنَّ الِشّعور بالأمن في الزّواج لا يكفي له كي يُوجد أن يتمّ عقد الزّواج وحفل الزّواج، بل لا بُدَّ من أن يكون كلٌّ من الزّوجين يُمكن الاعتماد عليه والاطمئنان إلى أنّه شخصٌ يحسُّ بالمسؤوليّة، وعلى مستوى الالتزام الّذي ألزم نفسه به عندما ارتبط بالطّرف الآخر كزوجٍ أو كزوجةٍ، إنَّ الزّواج من إنسانٍ غير مسؤولٍ ولا يُمكن الاعتماد عليه زواجٌ لا يتحقّق فيه الأمن والسّكن النّفسي على الإطلاق.

 

أمّا العنصر الثّاني الّذي لا بُدَّ منه في الزّواج كي يكون مصدراً للأمان والسّكن فهو عنصر الثّقة، إنّه دون ثقةٍ بالطّرف الآخر واطمئنانٍ إلى سلامة نواياه لا يُمكن للإنسان أن يُفضي إليه بما في نفسه، أو أن يُلقي بحضرته عن نفسه قناع القوّة والجَلَد الّذي يستُر به الإنسان ضعفه عن النّاس، ليرتاح منه مع شريك العمر الّذي يستمدُّ منه المؤازرة النّفسيّة ويَسكُن إليه عند الألم أو الخوف أو التّعب. دون ثقةٍ بالزّوج أو الزّوجة لا يُمكن للإنسان أن يُظهِر شيئاً من ضعفه البشريّ، ولا يُمكن له بالتّالي أن يطلب إشباعاً لاحتياجاته الّتي تُجسِّد هذا الضّعف البشريّ، كما إنّه دون ثقةٍ بالطّرف الآخر لا يُمكن أن يكون الإنسان عفويَّاً تلقائيّاً وعلى سجيّته وهو مع الزّوج أو الزّوجة، إنّما سيكون معه أو معها كما يكون مع شخصٍ غريبٍ، وبدون ثقة تفقد العلاقة حيويّتها ويفقد الالتزام معناه وتُصبح المودّة بين الزّوجين وهميّة. والثّقة حتّى تُوجد تحتاج إلى شخصٍ قادرٍ على الثّقة بالآخرين ولا يُسيطر عليه الشّك والتَّوجُّس فيهم، كما تحتاج في الوقت ذاته إلى شخصٍ أهلٍ للثّقة يُثبت ذلك من خلال تحمّله للمسؤوليّة ووفائه بالتزاماته، ومن خلال صدقه وأمانته وتقواه.

 

السّكن النّفسي والأمن هو الهدف الأكبر من الحياة الزّوجيّة، وإنَّ أيّ نوعٍ من التّهديد يوجهه أحد الزّوجين للآخر يُشكِّل ضربةً لهدف حياتهما الزّوجيّة ويجعلها بلا جدوى، وللتّهديد أنواعٌ وأشكالٌ، منه التّهديد بالعنف الزّوجي أو ممارسته، ومنه التّهديد بالخيانة الزّوجيّة، أو بالزّوجة الثّانية أو بالطّلاق، أو بسحب الموافقة على عمل الزّوجة الموظّفة، أو بالحرمان مما يحتاج إليه الطّرف الآخر أو يرغب فيه، وغير ذلك كثير.

تعليقات

لا توجد تعليقات بعد


تعليقك هنا
* الاسم الكامل
* البريد الإلكتروني
* تعليقك
 

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة