المقالات
أزمة أوسط العمر
Whatsapp
Facebook Share

أزمة أوسط العمر

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

لا تتضمَّن حياة الإنسان في الحالة الطّبيعيّة أكثرَ من مُراهقةٍ واحدةٍ... إذ يَمرُّ الجميع ذكوراً وإناثاً بسنواتٍ يكون فيها الإنسان في مرحلةٍ انتقاليّةٍ من الطّفولة إلى الرُّشد... وتكون هذه المرحلة من السّنة الثّانية العَشرة إلى الثّامنة عشرة... فالإنسان يَمرُّ في حياته منذ أن يُولَد إلى أن يَموت بأطوارٍ مُتتاليّةٍ لا بُدَّ لكلٍّ مِنَّا من المرور فيها وبالتّرتيب ذاته، لكن قد يختلف النّاس من حيث طولِ الفَترة الّتي يمضونها في طَورٍ مُعَيَّنٍ ومن حيث نجاحهم في تحقيق النّضجِ النّفسيِّ في ذلك الطَّور، بحيث يَنتقلون إلى الطّورِ الّذي بعده وهم مُستَعِدُّون للانشغال بمشكلاتِ هذا الطّورِ الجديد وقادرون على إنجاز ما عليهم من مُهمَّاتٍ فيه. فَمِن طَور الرّضاعة والاعتماد الكُلِّي على الأمِّ إلى طَورِ الحركةِ والكلامِ وبناءِ الحدِّ الأدنى من الاستقلاليّة والاعتماد على النَّفس وذلك في السّنوات الثّالثة والرّابعة والخامسة، ثمَّ إلى طَور الطّفولة المتوسطة ومرحلة التّعلُّم المُكثَّف في المدرسة الابتدائيّة ليكون بعدها طَور المُراهقة.

 

وطَور المُراهقة هامٌ جدّاً في حياة الإنسان، إذ عليه فيه أن يُحقِّق الكثير على صعيد نضجِ شخصيّته وتكوين هويّته... فهو في هذا الطّور يَختارُ بشكلٍ شعوريٍّ ولا شعوريٍّ، يَختارُ ماذا سَيكون في هذه الحياة وأيّ أهداف سيسعى إليها، وأيّ عقيدةٍ أو فلسفةٍ سيؤمِن بها، وأيّ مهنةٍ سَيعمل بها، وأيّ اتّجاهٍ سياسيٍّ سَيميلُ إليه ويُناصره، إلى غيرِ ذلك من جوانب الهويّة الإنسانيّة.

 

وبعد طَور المُراهقة وتكوين الهويّة يَنتقِل الإنسان إلى طَور الشّباب الباكر، وذلك ما بين السّنة الثّامنة عشرة والسّنة الثلاثين، حيث يَغلب عليه الاهتمام والتّركيز على تحقيقِ علاقةٍ حميمةٍ مع شخصٍ من الجنس الآخرِ يكون شَريكه وصَديقه في حياته كلّها.

 

وفي طَور الشّباب المُتأخِّر بين الثّلاثين والأربعين يَغلب على الإنسان الاهتمام بمهنته وتحقيق تقدُّم فيها، أمّا ربّةُ المنزل وأمُّ الأولاد فإنَّ ما تُحقِّقه من خلال إنجابها لعددٍ من الأطفال وسَهرِ اللّيالي للتّجاوز بهم من طَور الطّفولة والضّعف إلى مرحلة الاعتماد على النّفس، إنَّ ذلك يُمثِّل بالنِّسبة لها ما يُمَثّله النّجاح المهني بالنِّسبة للرَّجل، إذ عملُ المرأة في بيتها ودورها كأمٍّ وربّة منزلٍ هو مهنةٌ لها تَستَمِدُّ منه الإحساس بالإنجاز كما يَستَمِدُّ الآخرون هذا الإحساس من خلال مِهَنهم خارج المنزل.

 

ثمَّ تكون ذروة الرُّشد والنّضج النّفسيِّ وقمّة العَطاء والإنتاجيّة بالنِّسبة للإنسان رجلاً كان أو امرأةً وذلك في طَورِ الكُهولة بعدَ أن يَبلُغ الأربعين من عُمرِه... إنَّ السّنوات ما بين الأربعين والخمسين، أي أوسط العُمر هي السّنوات الّتي يَصِل فيها الإنسانُ النّاضجُ النَّاجحُ نفسيّاً إلى ذروة رُشده وإلى أعلى مستوياتِ عطائه لأُسرته ولمُجتمعه وللبشريّة، حيث يكون قد نَضج في علمه ومهنته وخبرته في الحياة.

 

والإنسانُ لديه وسائلٌ لمواجهةِ الأزماتِ النّفسيّةِ في حياته، منها ما هو ناضجٌ ومنها ما هو غير ناضج وغير سَوي، ومِن الوسائل غير النّاضجة النّكوص والعودة على المستوى النّفسيِّ إلى طَورٍ نفسيٍّ فات أوانه وانقضى زمانه.

 

إنَّ التَّقدُّم في العُمر يَجلب معه أزمةً يُسَمِّيها عُلماءُ النَّفسِ "أزمة متوسِّط العُمر" وهي أزمةٌ تَحدُث حوالي الأربعين (في السِّنين القليلة الّتي تسبق الأربعين أو في الأربعين أو السِّنين القليلة الّتي تليها). والإنسان في هذه المرحلة يَجِد نفسه في مواجهةٍ مع بعضِ الحقائق الوجوديّة الّتي لا بُدَّ له من مواجهتها، وأهمُّها إدراكه أنَّ الموت لن يَستَثنيه، وأنّه ليس صحيحاً أنَّه شابٌّ والمُستقبل أمامه، بل تبدأ بَوادِر الشّيخوخة تَظهَرُ في جسده، فالتّجاعيد في الوجه والشّعر الأبيض في الرّأس، والضّعف في الجسم، وظُهورِ بعضِ الأمراضِ كأمراض القلب أو المفاصل أو غيرها، وكذلك وفاة أحد والديه أو كلاهما، ووفاة الكثيرين مِن الكبار الّذين كان يَعرفهم... كلُّ ذلك وغيره يَضعه في مواجهة الحقيقة أنَّه سيموت يوماً ما، وأنَّ وجوده في هذا العالَم مُؤقَّتٌ بكلِّ معنى الكلمة، وأنَّه على الأغلب لَم يَتبقّ أكثر ممّا ذَهَبَ من العُمر.. والإنسانُ في طفولتِه وشبابِه يتناسى الموت ويَتَغافَل عنه ويَتَجنَّب التَّفكير فيه، وهذه حيلةٌ نفسيَّةٌ تُسمّى "الإنكار" تُخفِّفُ فيها النّفس من القلقِ الّذي يُمكِن أن يَنتج عن مواجهة الحقيقة وهي أنّنا سنموت يوماً ما. لكن بَوادِر الشّيخوخة والمَرَض وكثرة الوفيّات فيمَن نَعرِف ونَرتبط به بعلاقاتٍ حميمةٍ، أي كثرة حدوث الموت قريباً منّا، تَجعَل من الصّعب علينا أن نستمرَّ في التّناسي والتّغافل، فيَنكَسِر هذا الإنكار الّذي كان يُخفِّف قلقنا، ونَقِفُ وجهاً لوجهٍ أمام الحقيقة، وهي أنّنا سنموتُ يوماً ما، وأنَّ وجودَنا في هذه الدُّنيا مؤقَّتٌ. هذه المواجهة مع الموت الّذي يَنتظِر هناك، ويَقبَع في مَكمَنٍ لا نَعرِف هل هو قريبٌ أم بعيدٌ بعض الشّيء، هذه المواجهة تَجعَل الإنسان يُعيد النّظر في شؤونه كلّها تقريباً، فَيُعيدُ النّظر في عقيدته الدِّينيّة لِمَا لها من ارتباطٍ بما بَعد الموت، ويُعيد النّظَر في آرائه السِّياسيّة، ويُعيد النّظر في مهنته وهواياته وعلاقاته مع الآخرين ابتداءً بالزّوج أو الزّوجة وانتهاءً بالأصدقاء والزّملاء. يقومُ الإنسان بتقويم ما حقَّق ويُقارنه بما كان يَطمح إليه، وبالتّالي يُعيد النّظر في طموحاته ذاتها فيُعِدُّ لها بما يتناسب مع ما بقي من العُمر والقوّة والفُرص المُتاحة... إنَّ عمليّة إعادة النّظر هذه وعمليّة التّقويم الّتي يقوم بها الإنسان في متوسط العمر، حوالي الأربعين تترافق مع شيءٍ من القلق النّفسي خشيّةَ أن يَفوتنا القِطار ونخفق في إنجاز الحدِّ الأدنى ممّا نُريد أن نُنجزه، وخشيةَ مُفاجآتِ المُستقبل فيزداد الاهتمام بالتّوفير وإيجادُ ميراثٍ للأولاد، وتأمين ضمانات ضدَّ العَجز والشّيخوخة.

 

إنَّ تَذكُّر الموت يجعل الجميع في عجلةٍ من أمرهم، فالّذي يهمّه من الحياة المُتعة تَجده أصبح ذا شهيّةٍ مفتوحةٍ للمُتع يُريد أن يَشبع قبل أن يموت، فيُقبِل على الحياة أكثر، والّذي يَهمّه تحقيقُ الذّات وإنجازُ ما يُفيد الآخرين يُصبِح كثيرَ الإنتاجيّة والعَطاء، فهو يرعى أولادَه وقد يرعى أبويه الكبيرين، وتَجده في عمله يقوم بإعطاء خبرته إلى الآخرين فيُدرِّب مَن هُم أصغر منه ويَأخُذ بيدهم، وإن كان مُبدعاً زاد عطاؤه وإبداعه وبخاصّة أنّه يكون قد نضج في عِلمِه أو فنِّه. كما تَجِدُ الإنسان أكثر اهتماماً بالاستعداد للموت بأن يُصلِحَ علاقته مع الله فيتوبُ ويُكثِرُ مِن الأعمال الّتي يَتوقّع ثواب الله عليها، وقد يَعتَبر كلّ أعماله للآخرة، فيكون عطاؤه وإنجازاته كلّها من أجلِ رضى الله وثوابه.

 

إنَّ النّضج والواقعيّة الّتي تأتي مع الأربعين تَجعل الإنسان أكثر تَقَبُّلاً لَشريك حياته، وأكثر اهتماماً بالجَوهَرِ وأقلّ تركيزاً على المَظهَر، فتُصبح العلاقة بين الزّوجين أكثر عمقاً ومودّةً مع أنَّها ليست رومانسيّة، إنَّ هذا العُمر يجعلُنا أكثر إدراكاً لحقيقة أنَّ الذّكورة والأُنوثة هما فارقان ثانويّان لا يُغيِّران من الحقيقة الإنسانيّة المُشتركة بين الرّجل والمرأة، وهذا يَجعل من الأسهل على الزّوجين أن تَصِل علاقتهما إلى مستوىً أعمق من المودّة والاحترام.

 

إنَّ النَّجاح في مواجهة أزمة مُتوسِّط العُمر عند الرّجل والمرأة على السّواء يَعتَمِد إلى حدٍّ كبيرٍ على النّجاح والنّضج الّذي بَلغه الإنسانُ في أطوار الحياة السّابقة وبخاصّة في المُراهقة والكُهولة المُبكِّرة... والّذي أَخفقَ في حياته ولَم يُكَوِّن الأساس اللّازم له للانطلاق في العطاء والإنتاجيّة وتحقيق الذّات في متوسِّط العُمر وما بعده، يَجِد أنَّه لا أَمَلَ له في استدراك ما فاته فَيرجِع إلى الوراء بَدَلَ أن يَتقدَّم إلى الأمام، إنَّه بَدَل أن يُعطي ويُقَدِّم للآخرين يعود إلى اهتماماتِ سنِّ العشرين وإلى تحقيق إنجازاتٍ وانتصاراتٍ وهميّةٍ في مُغامراتٍ عاطفيّةٍ سطحيّةٍ، فَيَتَوَرَّط في دون جوانيّة لا تتناسَب مع عمره، إنّه التّعويض عن العَجز عن اجتياز التَّحدِّي الّذي أمامه بأن يَعودَ إلى الوراء لِيَجتاز مِراراً وتكراراً تحدِّيَّات أصغر لا تمتاز بشيءٍ إلّا بأنّها أهون عليه وأسهل.

 

ومن جهةٍ أُخرى فإنَّ القلق الوجودي النّاشِئ عن تَذَكُّر الموت قد لا يتحمّله بعض الرِّجال وبعض النِّساء نتيجة ضعفٍ في بُنيَتِهم النّفسيّة، فَيَتَمادون في الإنكارِ والتّغافُلِ للموتِ بأن يُنكروا ويَتَغافلوا بَوادِر الشّيخوخة والضّعف، فَتَجدهم يَلبسون ملابسَ الشُّبَّان والنِّساء الّذين هم في مُقتبل العُمر، ويتزيَّنون بزينتهم ويَسعَون لإنشاءِ علاقاتٍ عاطفيّةٍ أو حتّى للزّواج بِمَن يَصغرهم كثيراً، وكأنَّهم يقولون "ما دُمنا نَلبِس وَنتصرَّف كما لو كنّا في مُقتَبَل العُمر فإنَّ الموت ما زال بعيداً مِنَّا". 

 

إنَّ هذه الرّجعة إلى اهتماماتٍ وأزياء وأساليب حياةٍ لَم تَعُد تتناسَب مع العُمر الّذي بَلَغوه، هي طريقتهم في الهروب من مواجهة الحقيقة، وللأسف هي طريقةٌ مؤذيةٌ لأنَّها تَحرِمهم مِن فرصة النّضج والتّقدُّم نحوَ العَطاءِ والإنجازِ وتَحقيقِ الذّات. إنَّ تَصابي العَجوز رجلاً كان أو امرأةً يُعبِّر عن إخفاقِ هذا الشّخص وعن ضعفه الشّديد، وإن كان ذلك أمراً قابلاً للفهم لكنَّه بالتّأكيد ليس سويّاً ولا مَقبولاً.

تعليقات

لا توجد تعليقات بعد


تعليقك هنا
* الاسم الكامل
* البريد الإلكتروني
* تعليقك
* كود التحقق
 
 

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة